ترودو كندا يحيي قضية السيخ

مشكلة الديمقراطيات الغربية أنها تتيح المجال لأي شخص، حتى إن كان من ذوي الخلفيات والتجارب السياسية المتواضعة، أن يصعد إلى قيادة البلاد ويرسم سياساتها الخارجية بشكل لا يخدم مصالح بلاده العليا، كي لا نقول توريطها في إشكاليات مع الدول الأخرى هي في غنى عنها. يحدث هذا، في كثير من الأحيان، على الرغم من وجود بعض القيود البرلمانية على تحركات زعيم البلاد. وهناك أمثلة تاريخية عديدة في هذا السياق. غير أن أحدثها هو مثال رئيس حكومة كندا الحالي وزعيم حزبها الليبرالي الحاكم "جاستن ترودو" البالغ من العمر 49 عاما.
دخل الرجل معمعة السياسة في بلده، واستطاع أن يصعد بسرعة، ساعده في ذلك إرث والده السياسي "رئيس الحكومة الأسبق بيير ترودو"، ناهيك عن دغدغة عواطف الناخبين بجملة من الشعارات والبرامج الشعبوية، وانتقاد بعض البرامج الحكومية، واستغلال الخلافات الحزبية في كندا بعد رحيل، أو سقوط زعمائها التاريخيين. صحيح أن ترودو يحمل شهادات جامعية في الآداب والتربية والهندسة من جامعات مكجيل وكولومبيا ومونتريال على التوالي، لكن طريقة إدارته مختلفة عن المألوف من الدبلوماسية الكندية.
ولهذا، فإنه حينما تولى رئاسة الحكومة الكندية بدءا من عام 2015، راح يتدخل في شؤون الدول الأخرى دون مراعاة للقواعد الدبلوماسية المتعارف عليها في علاقة الأمم بعضها ببعضا.
وأخيرا تدخل في شؤون دولة كبرى هي الهند، التي تستضيف كندا على أراضيها عددا كبيرا من المهاجرين الهنود، ولا سيما من طائفة السيخ تحديدا، الذين يشكلون اليوم 1.4 في المائة من إجمالي عدد السكان، علما بأن الكثير من هؤلاء من الجيل الثاني أو الثالث المهاجر، ويتمتعون بالجنسية الكندية، بل صاروا أعضاء في الحكومة والبرلمان، بدليل وجود 18 منهم كأعضاء في مجلس العموم المكون من 338 عضوا، ووجود ثلاثة منهم كوزراء في الحكومة الفيدرالية الحالية.
بدأت المشكلة، الآخذة في التصاعد، مع الهند، حينما أصدرت نيودلهي أخيرا، قرارات زراعية قوبلت باحتجاج مزارعيها من منطلق أنها ضد مصالحهم وستعرضهم للاستغلال مستقبلا من قبل الشركات الكبرى والوسطاء، فسارع ترودو إلى انتقادها في كلمة له بمناسبة الذكرى الـ551 لميلاد جورو ناناك مؤسس العقيدة السيخية، وكان تبريره أن تلك القرارات الهندية ستؤثر سلبا في المواطنين السيخ الكنديين الذين لا يزالون يحتفظون بعلاقات مع وطنهم الأم، وجلهم من أصول فلاحية من ولاية البنجاب مسقط رأس رئيس الحكومة الهندية رانيندا مودي. ولعل السبب الأخير كان كافيا لانتقاد مودي نظيره الكندي بأشد العبارات لتدخله في شأن سيادي هندي محض.
والمعروف أن سيخ كندا لطالما أزعجوا الحكومات الهندية المتعاقبة بسبب دعمهم المالي المتواصل منذ الثمانينيات لحركة تسعى إلى فصل ولاية البنجاب عن الكيان الهندي وإقامة دولة منفصلة تحت اسم "خالستان". وعلى الرغم من أن هذه الحركة ماتت في مهدها زمن حكومة السيدة أنديرا غاندي، بعيد اغتيالها عام 1985 على يد أحد حراسها السيخ، فإن السيد ترودو جاء اليوم لإحيائها بقوله "اسمحوا لي أن أذكركم أن كندا ستكون موجودة للدفاع عن حقوق الاحتجاج السلمي للسيخ من خلال التواصل مباشرة مع السلطات الهندية لتسليط الضوء على مخاوفنا". لم يكتف ترودو بما سبق، بل حرض فئات من شعبه مثل الفنانين والرياضيين والمشاهير، على مسيرات احتجاجية ضد الهند، التي ردت بتصريح من المتحدث باسم خارجيتها "أنوراج سريفاستافا" قال فيه، "لقد رأينا بعض التعليقات غير المسؤولة وغير المبررة من قبل القادة الكنديين بخصوص الشؤون الداخلية لدولتنا الديمقراطية"، مضيفا "إن على كندا ألا تحرف الأخبار لأغراض سياسية وانتخابية". ويبدو واضحا أن نيودلهي لن تسكت في المقبل من الأيام على هذه السياسة الكندية، في وقت تواجه فيه التهديد من جارتها الشرقية وجارتها الشمالية.
وهنا يجب أن نذكر أن الحركة السيخية ليست انفصالية فقط، إنما هي قامت بأعمال عنيفة، بدليل أن مواطنيه الكنديين من السيخ زرعوا قنابل في طائرتين عام 1985 "الأولى من نوع بووينج جامبو تابعة للخطوط الهندية تحطمت قبالة سواحل مدينة كورك الإيرلندية وراح ضحيتها 329 راكبا، والأخرى تابعة لخطوط باسفيك الكندية انفجرت في مطار ناريتا الياباني قبل إقلاعها وتسببت في مقتل ستة من عمال الشحن". فهل يسمح السيد ترودو لنفسه بالتضامن مع حركة قامت بمثل هذه الأعمال؟ وهل سيؤيد - مثلا - حركة تطالب بانفصال إقليم كويبك الكندي الذي يطمح شعبه إلى الاستقلال بسبب تميزه الثقافي عن بقية الأقاليم الكندية الناطقة بالإنجليزية؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي