رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الأخطاء وثلاثية التوظيف

الوقوع في الخطأ مما جبل عليه الإنسان، لكن الفرق شاسع بين أن يقع المرء في الخطأ متعمداً وقاصداً الوقوع فيه، وبين أن يقع في الخطأ سهواً وبصورة غير مقصودة. لو راجع المرء منا تاريخه، وسجل حياته لوجد فيه كثيرا من الأخطاء سواء كانت أخطاء ارتكبت بحق الذات أو بحق الأسرة، أو بحق الآخرين من زملاء العمل، أو الجيران، أو من المارة في الشوارع، أو في حق البيئة، أو في حق المجتمع الكبير. كما أن جزءاً من أخطائنا تلك التي نقع فيها في علاقتنا بربنا في العبادات كالصلاة، والصيام، والحج وغيرها، ولذا نجد الشارع قد نبه إلى ضرورة تدارك الأخطاء والتكفير عنها، والتوبة والإنابة، ولذا شرع سجود السهو في الصلاة لإكمال نقص أو التعويض عن خطأ. وقد وردت كلمة خطأ في القرآن الكريم في مواقع كثيرة وفي معان متعددة منها النهي عن تعمد الوقوع في الخطأ في قتل المؤمن، أو في الدعوة إلى الاستغفار عن الخطأ، أو تلك المطئنة للمؤمنين إلى مغفرة الله لهم على خطيئاتهم غير المتعمدة، وغير الكبيرة حيث يقول البارئ :"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا".
في ثقافتنا الإسلامية نهي وزجر عن الوقوع في الخطأ لأن ما يترتب على الخطأ أمور لا تحمد عقباها سواء كان الخطأ في تربية الأبناء، أو التعامل مع الآخرين، أو أخطاء في العمل، وما يترتب على ذلك من سوء فهم، وخلافات بين أفراد الأسرة الواحدة، أو فريق العمل الواحد, إضافة إلى الأضرار المترتبة على الخطأ في مجال العمل. كثير من الأحداث التي تقع تكون نتيجة خطأ، وقد يكون صغيراً، لكنه على صغره يترتب عليه آثار بالغة ومدمرة، والنار من مستصغر الشرر، فكم من خطأ مروري، وقد يكون صغيراً، لكن الآثار الناجمة عنه كبيرة إذ قد يفقد كثير من الأفراد حياتهم بفعل هذا الخطأ. الخطأ الناجم من سلوك بشري عفوي متوقع لكن آثاره النفسية، والاجتماعية تكون أكبر لو كان الخطأ متعمداً، أو لو تم الاستمراء فيه والاصرار عليه، ونظرا لأن الخطأ خروج عن الصواب، ومضر بالمصلحة، لذا فالمرء معني ومطالب بالرجوع عن أخطائه وتصحيحها ، وكما في المثل السائد .. "الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل".
كيف نتجنب الأخطاء، وكيف نوجهها، ونستفيد منها فيما لو وقعنا فيها؟ سؤال مهم يكشف لنا أن الأخطاء يمكن توظيفها لمصلحة الفرد أو المجتمع، فالخطأ ما هو إلا تجربة وموقف، وقد يكون مؤلما، ومضرا في الوقت ذاته، ويترتب عليه خسارة مادية، أو معنوية, ولذا فعند تأملنا في الخطأ ندرك كيف وقعنا فيه، ولماذا، وماذا ترتب عليه، فالشاب الذي يقع في سلوك منحرف - لا سمح الله- قد يكتشف فيما بعد أن خطأ اختيار صحبة الشر هو السبب في السلوك المنحرف. ثلاثية مهمة تشكل الأساس النفسي لمواجهة الأخطاء، والاستفادة منها، تقول هذه الثلاثية لا بد للفرد أن يكون كبيراً بما فيه الكفاية ليقر ويعترف بأخطائه، كما يجب أن يكون ذكيا، ويستفيد من أخطائه، ويوظفها بما فيه مصلحته، أو مصلحة مجتمعه، ولا بد أن يكون قويا ليصحح أخطاءه. هذه العبارة تمثل حكمة بالغة، وعنصراً قوياً داعماً للفرد الذي تتوافر فيه هذه العناصر الثلاثة، ولا شك أن الناس الكبار بأخلاقهم وقيمهم وعقولهم هم من يلتمسون أخطاءهم، ويسعون جاهدين إلى التعرف إليها، ومن ثم الإقرار والاعتراف بها بدلاً من إنكارها وجحودها بفعل خاصية التعالي والكبرياء التي قد توجد عند البعض ولا تسمح له بالاعتراف بارتكابه الخطأ. إدراك الفرد أنه وقع في خطأ يمثل خطوة أساسية لتصحيح الوضع، أما من يستمر في المكابرة وإنكار الأخطاء فإنه يصل إلى مرحلة الإفلاس الأخلاقي والمعنوي، ومن ثم الإفلاس المادي، ذلك أن عدم الاعتراف بالخطأ يقود صاحبه لإرتكاب أخطاء أكثر، وأقوى تأثيراً. إن مراجعة المسيرة الذاتية وتحديد الأخطاء والاعتراف بها سواء مع الذات، أو أمام الآخرين يحتاج إلى شجاعة ولا يقدم عليه إلا من رزقهم الله الوعي والبصيرة النافذة التي لا ترى عيبا في التراجع عن الأخطاء (كلكم خطاؤون وخير الخطائين التوابون).
هل الأخطاء يمكن أن توظف توظيفا جيدا، وبما فيه مصلحة الفرد أو المجتمع؟ نعم الأخطاء تمثل رصيدا مهما عند دراسته، وتحليله التحليل الدقيق يساعد على اكتشاف الأسباب التي أدت بالفرد الوقوع بهذه الأخطاء، والتعرف على الظروف والملابسات النفسية، والاجتماعية، والبيئة التي حدثت فيها هذه الأخطاء، ولذا يوصف من يوظف أخطاءه بالذكي. إن القدرة على معالجة الأخطاء تمثل قمة الذكاء لما في ذلك من تجاوز لتحول الأخطاء إلى عقبة وكابوس، وعائق يعوق الفرد عن الحركة نحو الأمام. هل كل الأفراد قادرون على الاستفادة من أخطائهم؟ ليس بالضرورة ذلك، إذ لابد من القوة الكافية، قوة بدنية، وقوة نفسية، وقوة إرادة، قوة لا يشعر فيها الفرد بالحرج من أن يعيد النظر في واقعه، ويصحح ما يعتقد أنه خطأ. كم هم الأفراد القادرون على تشخيص ذواتهم وتحديد أخطائهم، والاعتراف بها، ومن ثم الاستفادة منها؟ البعض قد يفعل ذلك، ويعترف بأخطائه مع ذاته، لكنه لا يجرؤ على الاعتراف بها أمام الآخرين ظناً منه أن قيمته تقل في عيونهم، ويستنقص من قبلهم، وهذا أمر غير طبيعي، فالطبيعي الذي تتحقق معه مصحلة الفرد، ومصلحة المجتمع تكمن في تحديد الأخطاء، والاعتراف بها حتى ولو كان ذلك أمام الآخرين, خاصة إذا لم تكن من الأخطاء المخالفة للشرع، وهذا الأمر ينطبق على الهيئات والمؤسسات والمجتمعات التي قد تكرر الأخطاء تلو الأخطاء في مناحي التنمية المختلفة، ولذا نجد أن مجتمعات كهذه تراوح مكانها، ولا تتقدم قيد أنملة, إذ إنها تستمر في تكرار الأخطاء دون الاستفادة منها، وتخسر كثيرا من الأموال والممتلكات المادية, إضافة إلى الخسارة البشرية. إن اعتراف عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ من على المنبر, وأمام الناس بأنه أخطأ وأصابت المرأة, يمثل قمة التواضع, من حاكم كبير, وقمة القدرة على التحكم في المشاعر الذاتية, وبمثل هذه الخصائص تصحح الأخطاء ويقوى البناء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي