الميكروبات .. الوجه الطيب لعدو الإنسان
يثير فيروس كورونا الرعب بعد تحوله إلى جائحة، لا تزال تحصد يوميا أرواح آلاف من البشر، وهذا ليس بالشيء الجديد، فقد مثلت هذه الكائنات، منذ بدء الخليقة، آفة واجهت البشرية عبر العصور. تعد الأمراض والأوبئة والوفيات الجانب المعلوم من حياة هذه الكائنات، فيما يرتبط الجانب المغمور من تلك الحياة، بإسهامها في إعادة تشكيل التاريخ، وبلورة مسار تطور الكائن البشري. نعم، إن لهذه المخلوقات المجهرية أفضالا كثيرة على بقاء الحياة على كوكب الأرض واستمراريتها.
قد يندهش المرء، حين يعلم أن هذه المخلوقات الصغيرة والبسيطة، تقوم بدور مهم في حماية الحياة، لا بل إنها أكثر الكائنات الحية، على وجه البسيطة، إفادة للبشر. فدورها يتجاوز جميع أصناف الحيوانات التي نقتات على لحومها ونستخدم جلودها، ومعا أيضا النباتات التي تعد طعاما لنا ولها، أكثر من ذلك، يتوقع أن يكون اختفاء هذه الكائنات الصغيرة سببا يهدد وجود الإنسان على الكوكب الأزرق، لكن لماذا تُحارب إذن، وهل يمكن أن نقضي على وجودها تماما؟
تتعدى الميكروبات من الناحية العددية سكان الأرض، لكن الإنسان يتجاهل وجودها، على اعتبار أنها غير مرئية بالعين المجردة، فلو تمكن من رؤيتها لتحولت حياته إلى جحيم، لأنها لا تسكن الأرض فحسب، بل تسكن البيت والفراش والطعام وجسد الإنسان؛ ظاهره وباطنه، رغم تجاهل المرء لحقيقة كون جسمه بيئة حاضنة لهذه الكائنات. باختصار، إنها تحاصرنا، فهي في أي مكان قد تتوقعه.
تاريخيا، أدى اختراع الميكروسكوب في القرن الـ17 إلى رؤية هذه الكائنات، وتمكن الفرنسي لويس باستور من الربط بينها وبين الإصابة بالأمراض، وشكل ذلك نقلة علمية نوعية عام 1860. وحتى الآن ميز العلماء في عالم الكائنات المجهرية، بين البكتيريا والفطريات والفيروسات والبروتوزوا، وجميعها كائنات وحيدة الخلية، متنوعة في الشكل والحجم والوظائف. كما تتميز بتباين في الأدوار، حيث لا تقبل التنميط والتعميم مطلقا، فداخل الصنف الواحد من هذه الكائنات نجد الضار والنافع.
فالبكتيريا مثلا معظمها نافع، بدءا من ملايين تغطي جلد الإنسان، وصولا إلى المبطنة في الأمعاء، وكل منها في موضعه الصحيح، يقوم بوظيفة مفيدة في هضم الطعام، وحماية الجسم من هجمات كائنات أخرى. وفيها أطياف ضارة، فبكتيريا برسينا التي تحملها الفئران كانت السبب وراء جائحة الطاعون أو الموت الأسود، الذي عصف بالقارة الأوروبية. ويحدث أن تكون في المكان ذاته بدورين مختلفين، فبكتريا الفم، بعضها يتولى علمية التنظيف، فيما يسبب البعض الآخر تسوس الأسنان. زيادة على ذلك، قد يكون النوع الواحد منها ضارا لدى شخص، ولا أثر له في شخص آخر، فكثير من الميكروبات التي تصيب الإنسان، تعد عدوى انتهازية، لا تصيب من الجسد إلا في حال ضعف مناعته أمامها.
يحتضن جسم الإنسان العادي تريليونات من الميكروبات، وبالتحديد ما بين 40 إلى مائة تريليون من الميكروبات، صحيح أن هذا الرقم يختلف بحسب الشخص، لكنه في مجمل الأحوال كبير جدا، فعدد هذه الكائنات على الأرجح، يتخطى عدد خلايا الجسم المراوحة بين 30 و40 تريليون خلية، لكنها من حيث الوزن، لا تتعدى 2 /1 كيلو جرام من الوزن الإجمالي للفرد.
ينطبق الأمر ذاته على الفطريات، فهي التي تخبز الخبز وتتسبب في إفساده، وتمرض الجلد وتحميه. ثم إن أمراض الفطريات في الإنسان لا تنتج فقط من الإصابة بفطريات غريبة عن جسده، لكن عادة ما يحدث اختلال في توازن الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في الجسم نفسه، فتناول المضادات الحيوية، على سبيل المثال، يستهدف القضاء على البكتريا الضارة، لكنه قد يصيب النافعة أيضا، وعندما تقل أعداد هذه الأخيرة، تترك المجال لنمو فطريات بكثرة.
تحظى الفيروسات في المقابل بسمعة سيئة، فأشهر الأمراض كالحصبة، الإيدز، الإنفلونزا، وكورونا، التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، كانت بسبب فيروسات. يتجه أحدث الأبحاث في هذا المجال إلى مراجعة صورة الفيروسات وتصحيحها، بعد اكتشاف العلماء - بمحض الصدفة - أن فيروسات معينة قادرة على استهداف خلايا سرطانية داخل جسم الإنسان، فقد سُجل تحسن نسبي لدى بعض مرضى السرطان عند إصابتهم بعدوى فيروسية، منذ ذلك الحين والفكرة قيد التبلور حيث خضعت لكثير من الأبحاث.
ظل الأمر قيد التجريب والاختبار إلى غاية 2005، حين أعلن باحثون من جامعة كاليفورنيا أنهم أعادوا برمجة الفيروسات، فتحولت من أحد أعداء البشرية الأكثر دموية إلى قاتل للسرطان، عندما قاموا بإعادة برمجة سلالة معدلة من فيروس نقص المناعة البشرية للبحث عن الخلايا السرطانية. وكانت الفيروسات ولا تزال تقوم بدور حيوي، يحول دون انهيار النظام البيئي، لا تعرفه إلا أقلية قليلة وسط القلة، فبفضل عمل هذه الكائنات الدقيقة، لم تنقلب البحار والمحيطات إلى مسطحات مائية خضراء سمكية، بسبب الطحالب التي تتولى هذه الفيروسات تقليصها.
تعامل الإنسان مع مكونات كوكب الأرض بترتيب اكتشافه لها، فهو أولا باعتباره المركز، ثم كل ما سيكتشفه، لكن الأرض لها رأي آخر، فالحفريات في الأركيولوجيا أظهرت أن أول صورة للحياة على سطح الأرض، كانت لهذه الكائنات الدقيقة، منذ نحو 3.5 مليار عام، بينما يعود أكبر تقدير للإنسان العاقل "الإنسان المتحضر" إلى أقل من ربع مليون عام فقط، ما يعني أننا وفق هذا والأرقام والتواريخ، مجرد ضيوف الميكروبات على الكوكب.
من حولنا قائمة طويلة من المجالات، لولا الحضور الدائم والمستمر لهذه الكائنات المجهرية، لما كان لها أن تستقيم، ولما كانت هناك استمرارية للعنصر البشري على وجه الأرض، وهذا يعزز يوما بعد أخيه مقولة الفرنسي باستور، أول إنسان عاين عن قرب هذه الكائنات، حين قال، "ليس من المحتمل أن تدوم الحياة طويلا عند غياب الميكروبات"، وكأنه يثبت قول الشاعر العربي، "إن البعوضة تدمي مقلة الأسد".