ترميم القصور والمباني التراثية .. الرياض تستعيد ذاكرتها برؤية قائد ملهم
يقود ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حملة وطنية لاستعادة ذاكرة الرياض العمرانية، حفظا لتاريخها العريق، الذي تتركه للأجيال اللاحقة إرثا حضاريا تتفاخر به، وتستمد منه أساسا راسخا، تنطلق منه نحو مستقبل مزدهر.
آخر ما أثمرت عنه الحملة، توجيه كريم بترميم مباني التراث العمراني وسط العاصمة، واستثمار هذه المقدرات بما تحمله من تراث وكنوز، التي تأتي امتدادا لدعم القيادة غير المحدود لقطاع الثقافة والتراث، كونهما مجتمعين يمثلان مرآة للهوية الوطنية للدولة، ويعكسان أصالة شعبها وثقافتها على الخريطة العالمية.
قلب الرياض
استفاقت الرياض على خبر انطلاق مشروع ترميم وتأهيل مباني التراث العمراني وسطها بزهو كبير، الذي جاء بعد أيام قليلة من تحقيق المملكة أسبقية عالمية، بتتويج جهودها في التراث بامتلاك عضوية ثلاث لجان أساسية في منظمة اليونيسكو، هي عضوية المجلس التنفيذي، عضوية لجنة التراث العالمي، وعضوية التراث الثقافي غير المادي، فجاءت كاعتراف عالمي بمكانة المملكة وحضارتها الضاربة في جذور التاريخ.
أما آلية عمليات الترميم، فأكد الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان وزير الثقافة رئيس مجلس إدارة هيئة التراث، في بيان له، أن عمليات الترميم ستراعي المعايير العالمية في أساليب الترميم والمحافظة على مباني التراث العمراني، وسيشمل النطاق الأول للمشروع 15 قصرا تراثيا في حي الفوطة وظهيرة، منها ثلاثة قصور في الفوطة الشرقية، وسبعة قصور في الغربية، إضافة إلى خمسة قصور ملكية، كمسار عاجل، وستركز المرحلة الأولى على إعداد الدراسات والتصاميم، وتهيئة وإدارة المواقع والتدعيم المؤقت للمباني في وضعها الراهن، وستستغرق ثلاثة أشهر، بينما ستشمل المرحلة الثانية مشروع التنفيذ للترميم الشامل وإعادة تأهيل المباني خلال 24 شهرا بدءا من يناير من العام المقبل.
وسيبدأ النطاق الثاني من المشروع بالتوازي مع النطاق الأول، بدراسة كاملة لجميع مباني التراث العمراني ذات الأهمية وسط مدينة الرياض بجميع تصنيفاتها، والعمل على توثيقها معماريا وعمرانيا، ووضع الخطط التنفيذية اللازمة للمحافظة عليها وترميمها وإعادة تأهيلها.
وتعكس القصور القديمة روح العمارة التقليدية، حيث تعود القصور السبعة في الفوطة الغربية إلى عام 1944، بينما تعود القصور الثلاثة في الفوطة الشرقية إلى عام 1935، وتتوزع القصور الملكية الستة "قصر الملك فهد، قصر الملك عبدالله، قصر الأميرة هيا بنت عبدالرحمن، قصر الأمير سلطان، قصر الأميرة العنود" في حي ظهيرة والفوطة وأم السليم، ويتجاوز عمرها 70 عاما.
ترميم التراث شرقا وغربا
عمليات الترميم التي تجري في مباني الرياض لم تكن الأولى، وليست الأخيرة، ففي مايو من العام الماضي، وجه الأمير محمد بن سلمان بترميم 56 مبنى من المباني الآيلة للسقوط في جدة التاريخية، بمبلغ 50 مليون ريال، كمرحلة أولى، ضمن مشروع شامل لإنقاذ المواقع ذات القيمة الثقافية من أي مهددات قد تؤدي إلى زوالها.
وفي عام 2018، بدأ برنامج "إعمار المساجد التاريخية" الذي تشرف عليه هيئة السياحة بالشراكة مع وزارة الشؤون الإسلامية ومؤسسة التراث الخيرية، بعمليات تأهيل وترميم 130 مسجدا تاريخيا، بعد توجيه ولي العهد، حفاظا على المساجد التاريخية وتأهيلها للعبادة، نظرا إلى مكانتها العظيمة في الدين الإسلامي الحنيف، ولتميز طابعها المعماري الأصيل، إضافة إلى كونها أحد أهم معالم التراث العمراني.
وقبل نحو أسبوعين، أعلنت وزارة السياحة أنها ستبدأ في ترميم منزل "لورانس العرب" في ينبع، ليكون جاهزا لاستقبال السياح بحلول نهاية العام، وهو المنزل الذي سكنه الضابط البريطاني الراحل توماس إدوارد لورانس، وعاش فيه أثناء الثورة العربية الكبرى عام 1915، عندما كان ميناء ينبع قاعدة إمداد مهمة للقوات البريطانية والعربية في معاركها ضد الأتراك في الحرب العالمية الأولى.
مورد اقتصادي
انطلقت عملية ترميم المباني التراثية من كونها موردا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياحيا، تسعى المملكة إلى الاستفادة منه، بناء على "رؤية 2030" التي وضعها مهندسها الأمير محمد بن سلمان، ونصت في وثيقة برنامج "جودة الحياة" على المحافظة على تراث المملكة الإسلامي والعربي والوطني والتعريف به محليا وعالميا، وحفظ وإعادة تأهيل مواقع التراث وتصنيف عدد منها ضمن المواقع التراثية.
وبحسب بيانات وزارة الثقافة، فإن عدد مواقع التراث العمراني القابلة للتنمية السياحية بلغ 1985 موقعا، تتنوع ما بين قرى وأحياء ومراكز مدن ومبان، ويجري ترميم المباني ذات الأهمية المعمارية والتاريخية إبرازا للهوية المحلية، ورفع كفاءة استخداماتها مع المناطق المتاخمة لها، وربطها بذاكرة المكان وتاريخ الرياض عمرانيا، وقد أعدت لذلك مبادرات مشتركة بين عدد من الجهات الحكومية، مثل برنامج القرى التراثية، وبرنامج تحسين مراكز المدن التاريخية والمحافظة على تراثها العمراني، وتوظيفه اقتصاديا وسياحيا، مثل جدة التاريخية، وحي أبو السعود التاريخي وسط نجران، والوسط التاريخي لأبها، ووسط مدينة تبوك، والدرعية التاريخية التي تحتضن مشاريع عملاقة لتكون أكبر مدينة تراثية في العالم.
وتكاملا مع هذه المبادرات، دشن الأمير فيصل بن بندر أمير منطقة الرياض أمس الأول مشروع ترميز مباني التراث العمراني، أحد مشاريع وزارة الثقافة من خلال هيئة التراث، ويسعى إلى توفير البيانات والمعلومات والإحداثيات الجغرافية والمكانية والصور الفوتوغرافية المتعلقة بمواقع التراث العمراني في المملكة، بهدف حصرها وتقييمها وتصنيفها، وذلك في سياق جهود الوزارة لحماية التراث الوطني ودعمه في مختلف مناطق المملكة.
أنشطة استثمارية
يشكل التراث العمراني وعاء لمعظم أنشطة السياحة الثقافية، التي تشكل - وفقا لدراسات - 37 في المائة من موارد السياحة العالمية، كما أنها تعد مساهما رئيسا في توفير فرص عمل للمجتمعات المحلية، وفرصة لإحياء المهن والحرف التقليدية التي توشك أن تندثر، في مواجهة الزحف التقني.
ووفقا لكتاب "التراث العمراني" الصادر عن الهيئة العامة للسياحة في عام 2015، فإن عددا من الأنشطة الاستثمارية والخدمات تمكن إقامته في المباني التراثية، مثل توظيفها كأماكن سكنية، أو متاحف، أو مطاعم لتقديم الأكلات الشعبية، ويمكن توظيفها كمعامل للرسم والفنون التشكيلية، أو أماكن لمزاولة الحرف اليدوية، واستخدامها أيضا كمواقع للأسواق الشعبية.
فيما يمكن استثمار الساحات المحيطة بالمباني كمواقع لمزاولة الفنون الشعبية الأدائية، وتوظيف الممرات لمزاولة الأنشطة الثقافية والرياضية والترفيهية، وهو ما يتفق مع ميثاق البندقية لعام 1964، الذي نص في مادته الخامسة على أن عملية الحفاظ على المنشآت الأثرية دائما ما تمهد للاستفادة من هذه المنشآت، عبر إعطائها بعض الوظائف الاجتماعية المفيدة، هذا التوظيف والاستخدام أمر مرغوب فيه، لكن عليه ألا يغير تصميم المبنى أو تزيينه.