رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


السعودية والحاجة إلى سعر 75 دولاراً للبرميل

قبل فترة قصيرة من الآن، عندما ارتفعت أسعار النفط إلى مستويات تاريخية، دعا عدد من أعضاء منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) إلى خفض الإنتاج بهدف إبقاء أسعار الخام عند تلك المستويات القياسية المرتفعة. لكنّ هذه الجهود باءت بالفشل وكانت المملكة العربية السعودية الدولة المسؤولة عن زيادة الامدادات النفطية من جانب واحد سعياً منها لتهدئة السوق. وفي الحقيقة، رأت المملكة أنّ أسعار النفط المرتفعة للغاية تلبي احتياجات ميزانيات الدول المصدّرة للنفط على المدى القصير، ولكنها ستؤذي الاقتصاد العالمي. صحيحٌ أنّ أسعار النفط انخفضت أخيرا بشكل دراماتيكي لكنْ ينبغي للدول المستوردة للنفط أنْ تعترف بدفاع المملكة الدائم عن أسعار النفط "العادلة" والإنتاج النفطي المستقر، كما يتعيّن عليها أنْ تدرك حقيقةَ أنّ أسعار النفط المفرطة في الارتفاع لا تقل ضرراً عن أسعاره المفرطة في الانخفاض. لذا، طالبت المملكة بسعر "عادل" قدره خمسة وسبعون دولاراً للبرميل. وإذا أخذنا المناخ الاقتصادي العالمي بعين الاعتبار، فإن هذا السعر مناسبٌ تماماً.
ومن الأمور الحاسمة في هذا السياق حقيقة أن الأشهر القليلة القادمة ستكون الأشهر الأولى في تاريخ المملكة التي قد تشهد تعطيل أكثر من 35 في المائة من إجمالي طاقتها لإنتاج النفط ـ وهذه النسبة أعلى بكثير من المعيار التاريخي الذي يراوح من 15 إلى 20 في المائة. وينطوي هذا التعطيل غير المسبوق في الطاقة الإنتاجية على خسارة هائلة تُقدَّر بأكثر من خمسة عشر مليون دولار يومياً. ولا توجد أيّ دولة أخرى قادرة على الالتزام طويلاً بإبقاء مثل هذه النسبة المرتفعة من الطاقة الإنتاجية معطّلة. ومع نهاية السنة المقبلة، ستصل الطاقة الإنتاجية النفطية للمملكة إلى اثني عشر مليون برميل يومياً بفضل تعزيزها عبر استثمار ستين مليار دولار، طبقاً للتقديرات. ومع أنّ الإبقاء على هذا المستوى من الطاقة الإنتاجية الاحتياطية سيكون مؤلماً بالنسبة للحكومة السعودية، إلا أنه يُبرز أيضاً مدى تنامي قدرة المملكة على التأثير في أمن الطاقة وأسعارها العالمية فهذه الطاقة الإنتاجية الاحتياطية التي تبلغ ملايين البراميل يومياً ستعزز قدرة المملكة على مواصلة دورها المعهود في الحفاظ على استقرار أسعار النفط، وعلى بقائها حصناً منيعاً يحمي العالم من عواقب الاضطرابات غير المتوقّعة في إمدادات النفط العالمية.
لكنّ الدافع وراء ضمان إمدادات الطاقة لا يقتصر على توفيرها بأسعار معقولة، بل يشتمل أيضاً على ضمان استمرار الطلب، إذ لا يمكن تحقيق أمن الطاقة عندما تكون أسعارها أدنى مما ينبغي أو أعلى مما ينبغي فبعد التراجع الحاد على مدى الأشهر القليلة الماضية، أصبحت أسعار الطاقة دون الحد المعقول، وهو ما يحمل أخطاراً جديّة عديدة. أولاً: إنّ المستويات المتدنية لأسعار النفط تجعل النفط "الصعب الاستخراج" غير ناجع اقتصادياً؛ الأمر الذي سيؤثر سلباً في الدول التي ترتفع فيها تكاليف استخراج النفط (مثل أنغولا والبرازيل)، وفي عملية تطوير مصادر الطاقة الجديدة المحتملة (مثل الرمال القطرانية في كندا)، فضلاً عن تقويض البحث عن المصادر البديلة للطاقة وكذلك السياسات التي تشجّع تعزيز كفاءة استخدام موارد طاقة، على المدى البعيد . ثانياً: إنّ تراجع أسعار النفط يجعل من المستحيل التنبّؤ بحجم عائدات النفط، الأمر الذي يحدّ من قدرة الدول المصدّرة للنفط على القيام بالاستثمارات الضرورية في مجاليّ التنمية المستدامة وتنويع الإنتاج.
ولطالما فُهم ضمنياً أنه ينبغي للصناديق السيادية للثروة في منطقة الشرق الأوسط أنْ تبذل قصارى جهدها للاستحواذ على أصول في الولايات المتّحدة وأوروبا لكنْ يبدو أنّه سيتعيّن على معظم هذه الصناديق أنْ تُعيد ترتيب أولوياتها وأنْ تركّز على الاستثمار في اقتصاداتها المحليّة.
كما يوجد في الولايات المتّحدة نحو ثلثي إجمالي الأصول التي استثمرتها مؤسسة النقد السعودي (البنك المركزي السعودي)، التي تقدّر قيمتها الإجمالية بأكثر من 550 مليار دولار. وفي عام 2007، تجاوزت قيمة وارادت المملكة من الولايات المتّحدة حدّ الاثني عشر مليار دولار، بينما تجاوزت وارداتها من أوروبا ثلاثة وثلاثين مليار دولار. ويُعدّ "هذا التدوير لعائدات النفط" إحدى السياسات المتّبعة منذ فترة طويلة من جانب المملكة وباقي دول الخليج المصدّرة للنفط فمن كلّ اثنين وسبعين دولاراً حصلت عليها المملكة عبر كلّ برميل من النفط صدّرته في عام 2007، دوّرت المملكة في الخارج نحو أربعين دولارا. ويستفيد العالم العربي أيضاً من عائدات المملكة النفطية من خلال الحوالات المالية والاستثمارات. وكلما انخفضت أسعار النفط، انخفضت معها أيضاً الاستثمارات السعودية في العالم العربي وخارجه لذا، فإن انتعاش المملكة مالياً له تأثير اقتصادي واسع النطاق، إذ قُدّر حجم الاستثمارات السعودية في العالم العربي وحده خلال طفرة النفط الأخيرة بأكثر من أربعين مليار دولار.
وبفضل الاستثمار الفعّال لأرباح النفط التي جنتها المملكة خلال طفرة النفط الأخيرة تُعدُّ قدرة المملكة اليوم على تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية أكبر بكثير مما كانت عليه قبل بضع سنوات. وستواصل المملكة إنفاقها السخي في القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية الرئيسية: التعليم والتوظيف والبنى التحتية والرعاية الصحية. لكنّ الموارد المالية أصبحت محدودة. وبالتالي، قد تستعين المملكة بجزء من أصولها الموجودة في الخارج، إذا اقتضت الضرورة، إضافة إلى زيادة حجم الديْن العام من السوق المحلية. ويمكن أنْ تقرّر المملكة أيضاً تقليص الإنفاق إلى حين ارتفاع أسعار النفط إلى مستوى "عادل" أكثر استدامةً.
ولا يمكن أنْ تُلام المملكة العربية السعودية خلال السنوات القادمة إذا عانت أسواق النفط نقصا في إمدادات الدول غير الأعضاء بمنظمة أوپك فنمو المملكة هاجس أمني يقلق الجميع. ولا بدّ من وجود قناعة راسخة بأنّ "السعر العادل" للنفط ضروري بالنسبة إلى مصدّري النفط ومتلقّي الجزء المدوّر من العائدات النفطية، على حدّ سواء. وأحد أهم الأمور التي يمكن أن تفعلها الدول المستوردة للنفط هو إدراك وملاحظة الحقيقة التالية: إنّ المملكة باعتبارها "البنك المركزي للنفط" في العالم قامت وستواصل القيام بدور حيوي في ضمان الازدهار العالمي. وبسعر خمسة وسبعين دولارا للبرميل، ستتمكن المملكة من مواصلة هذا الدور لجيل آخر، على الأقل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي