التطرف في إفريقيا .. قصص من الخطوط الأمامية

التطرف في إفريقيا .. قصص من الخطوط الأمامية
تفسيرات مؤدلجة ومؤطرة بمصالح ذاتية للنصوص المقدسة تغذي إرهاب الجماعات.
التطرف في إفريقيا .. قصص من الخطوط الأمامية
عملت الباحثة أليكس أوكيوو على تصحيح النمطية التي تقابل بين الإسلام والإرهاب.

توجد كتب نوعية، لا تجدي خريطة الأنواع الكبرى المعروفة في الساحة الأدبية نفعا معها، فتصنيفات القارئ تتبدل من فصل إلى آخر، وأحيانا بين الصفحة والأخرى، حتى يبلغ خاتمة المؤلف، دون أن يثبت على قرار معين تجاه جنس الكتاب المقروء. قدرة إبداعية استثنائية، لا يمتلك ناصيتها سوى أقلية من الكتاب، كما أن لطبيعة المواضيع المطروقة نصيب مهم في تولدها.
تعد الكاتبة الصحافية أليكس أوكيوو Alexis Okeowo الأمريكية من أصل نيجيري، اسما شابا ضمن هذه الثلة من المؤلفين، فباكورة أعمالها الصادرة أواخر عام 2017، بعنوان "سماء بلا قمر ولا نجوم"، في أزيد من 250 صفحة، لم تنقل حتى الآن إلى اللغة العربية، نموذج لهذه العينة من الكتب، التي تخرق قواعد التصنيف التقليدية في عالم الكتابة والتأليف.
يعرض الكتاب رحلة عودة المؤلفة إلى القارة السمراء حيث أصولها، لكنها عودة من أجل الآخر أكثر مما لها منزع ذاتي. صحيح أن القلم يغالب الكاتبة من حين إلى آخر، خاصة عند الخوض في مسائل الأصل والهوية والانتماء، إلا أن الغاية المثلى لهذا الرجوع تبقى إنسانية نبيلة. إنها عودة من أجل قارة منسية، لا تزال مجرد كعكة في أعين القوى الكبرى، ومن أجل الإفريقي (ة) الذي يصنع التاريخ، كما ديدن أجداده الأقدمين، بالمتاح له من الإمكانات البسيطة والمتواضعة، بعيدا عن الضوضاء والأضواء.
تسلط هذه الرحلة السردية - إن جاز هذا التوصيف - في نيجيريا وأوغندا وموريتانيا والصومال، الضوء على تفاصيل صغيرة، تندمج لتشكل فسيفساء غنية وملهمة، عن إفريقيا التي حافظت، لآلاف الأعوام، على التعدد العرقي والتنوع الحضاري والغنى الثقافي.. إرث تحاول عصبة من المتطرفين الجهال القضاء عليه، بطرح نشاز، يروج قراءات شاذة، وتفسيرات منحرفة للأديان. ويستوي في ذلك التطرف المسيحي والتطرف الإسلامي، بتفسيراتهما المؤدلجة والمؤطرة بمصالح ذاتية للنصوص المقدسة.
تولت المؤلفة في القسم الأول من الكتاب شرح السياق العام، بمكوناته التاريخية والسياسية والاجتماعية والديموغرافية، التي أفضت إلى تشكيل المقاومة الإفريقية أمام النزعة الدينية المتطرفة، واستأثرت في القسم الثاني بالبحث في دواعي إقبال المتشددين على القارة الإفريقية من ناحية، ومن ناحية أخرى في ردود فعل أصحاب القصص "الأبطال"، بتقديراتهم الخاصة لسبل مواجهة الإرهاب، في غمرة الفوضى والتيه والتعقيد. كل هذا بلغة جميلة، وأسلوب تعلمي غير تبسيطي، ناقلة صورا حية من أقسى الصراعات التي شهدتها مناطق في القارة السمراء، بنظرة إنسانية موضوعية، بعيدا عن مواقف وتحيزات الإعلام، وذلك بلسان شهود مباشرين، ممن عاشوا تلك الأعمال البربرية.
حرصت أوكيوو على تحري الدقة، فتنقلت بين دول في الشرق والغرب والوسط في إفريقيا، حتى تضفي على مؤلفها طابعا ميدانيا، يمنح أطروحتها جدة وقيمة مضافة. شغل سؤال السر وراء تفضيل المتطرفين القارة الإفريقية بال الكاتبة بشدة، وحاولت الإجابة عنه، برده في المقام الأول إلى سهولة تعزيز الموارد المالية، حيث يسهل الاستحواذ على الثروات الطبيعية كحقول النفط والمناجم، لضعف المنظومة الأمنية في معظم الدول، وفي المقام الثاني إلى الاهتمام بالقيمة السياسية والاستراتيجية للمكان، فالمعطى الجغرافي عنصر مهم في نشر التشدد، لذا لا تستعجل في عد شرق إفريقيا المطل على المحيط الهندي في مقدمة المناطق الأكثر نموا للتطرف.
قد نختلف قليلا أو كثيرا مع تفسيرات الباحثة، وكذا استنتاجاتها حول انتشار التطرف في دول إفريقيا، لانحيازها الواضح بوعي أو ربما بدون وعي إلى أطروحة المدرسة الأمريكية في دراسة الإرهاب والتطرف العنيف، لكن قطعا، لا أحد بمقدوره انكار تميز واستثنائية قصص وروايات الشق الثاني، لأفراد بسطاء يمثلون ويتمثلون الإنسان والقيم الإفريقية الأصيلة، واجهوا التطرف بطرق غير عادية.
عملت الباحثة على تصحيح النمطية التي تقابل بين الإسلام والإرهاب، فنقلت لنا شهادة من أوغندا لضحية تطرف مسيحي، تدعى بيونيس، خطفها "جيش الرب" بزعامة جوزيف كوني، الذي أجبرها على الزواج ببوسكو، طفل من أشهر مقاتلي هذه الحركة المتطرفة، تقرر بمعية زوجها الهرب بعيدا، في مغامرة غير محسوبة العواقب، لتنطلق أطوار معركة أخرى، تتمثل في الكفاح من أجل القبول والاعتراف بالمجتمع بعد العودة، فمواصلة الحياة بشكل طبيعي، مع زوجها "الإرهابي" لم تكن مستساغة لدى كثيرين، لتجد نفسها في دوامة عنف المجتمع، بعدما انسلت من إرهاب التنظيم المسيحي العنيف.
رصدت الكاتبة قصة الناشط المدني الموريتاني بيرام داه أبيد المناهض للرق، الذي يرفض التواطؤ الضمني للمجتمع الموريتاني بخصوصه، من خلال تطبيعه معه وصمته المريب عنه، بالقبول بتفسيرات وتبريرات سياقية، قصد إضفاء الشرعية على العبودية والعنصرية والعنف. وفي الصومال، تروي المؤلفة قصة عائشة، تلك الشابة الصومالية الشجاعة التي تحملت التهديد والعنف البدني، من أجل ممارسة لعبة كرة السلة، ببساطة لأن هذه الرياضة إلى جانب أخرى تبقى من الأنشطة المحظورة من جانب حركة "الشباب الصومالي"، التنظيم المسلح الذي يسيطر على مناطق شاسعة من البلاد.
يحتفظ الكتاب بتفرده في مجال دراسة الإرهاب في إفريقيا، فهو على ما يبدو من الأعمال البحثية النادرة التي نقلت إلى القراء والمراقبين والخبراء صوت الضحية. نقيض ركام من الدراسات المستغرقة في التنظير عن وحول التنظيمات المتطرفة من جهة، ومن أخرى عن سرد جهود وخطط وبرامج الدول الإفريقية والمنظمات الدولية، لمجابهة التطرف العنيف. بينهما اختارت أوكيوو تقديم رؤيتها من زاوية أخرى، باعتماد شهادات مباشرة، توضح الإرادة القوية التي يتمتع بها "الأبطال"، التي مكنتهم من التغلب على العقبات، كأشخاص عاديين، وامتلاكهم القوة والشجاعة لتغيير حياتهم ومجتمعاتهم.

الأكثر قراءة