التستر بين مقصلة القانون ومرونة الاقتصاد
كتبت الدكتورة نجلاء الحقيل، مقالا أخيرا عن استخدام النظريات الاقتصادية للتشريع القانوني. وهذا موضوع مهم جدا يجب أن يأخذ مكانه من النقاش في هذه المرحلة التي نمر بها من التعديلات واسعة النطاق في معظم الأنظمة، والتطوير الشامل في مفهوم الإدارة العامة وتدخلها في النشاط الاقتصادي عموما. ولم أجد فيما قرأت من تطرق لهذا الموضوع كما تطرقت له الكاتبة، ويكفي مطالبتها بالنظر إلى التشريعات الجديدة من وجهة نظر اقتصادية كمحفز لي على طرح الموضوع من وجهة نظر لعلها داعمة وإن كانت مختلفة. وفي نظري، أن أي تشريع سيكون له أثر اقتصادي حتما، ولهذا فإن التفكير الاقتصادي قبل إعداد التشريع القانوني يعد أمرا لازما، ولو جادل البعض بأن الأثر الاجتماعي أولى وأهم. وأنا أرد، بأن أي بناء اجتماعي قائم أساسا على فكر اقتصادي، ولا يمكن فك البنية الاجتماعية عن الاقتصادية، فالاقتصاد برمته علم اجتماعي. ومع الأسف، هناك سيطرة واضحة للفكر القانوني البحت على بنية التشريع دون الأخذ في الحسبان تلك الأبعاد الاقتصادية الملازمة لهذه التشريعات، ومن ذلك نظام التستر مثلا، وما صدر أخيرا من تنظيم العمل المرن الذي أقرته وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية. وقد ناقشت هذه المسألة مرارا.
فموضوع التستر، الذي يناقشه بحرارة أصحاب الفكر القانوني يرونه من جانب المخالفة للنظام، وليس من جانب التصرفات الاقتصادية الطبيعية والعقود الاقتصادية الناتجة عنها. لذا، فإنهم يبحثون جدهم في مسألة العقوبات وتغليظها لتحقيق معنى الردع، وهنا أرى أن النظرية الاقتصادية المبنية على نظرية المباريات Game Theory هي الأجدى، فالمسألة ليست عقوبة وردعا فقط، بل مستويات من المخالفة، فالمخالفة تمثل دائما الحصول على مزايا ليست متاحة للجميع، وقد يرى المجتمع وفقا لعقوده الاقتصادية أن هذا يتم تعويضا للمجتمع عن حصول المخالف على هذه المزايا غير المتاحة للآخرين، ويقبل المجتمع بالتعويض عن الضرر البسيط الذي أصابه، بينما بعض العقوبات يجب أن تكون رادعة لتمنع الحصول على المزايا ابتداء، لأن الحصول عليها يشكل ضررا فادحا على شريحة واسعة من المجتمع ممن ليس لهم حق الاطلاع ولا علاقة تعاقدية مباشرة، كمثل قضايا الفساد عموما. لذا، يجب النظر إلى العقوبة من جانب التعويض ثم الردع ثم التدمير، بمعنى أن ارتكاب المخالفة قد يعرض صاحبها لدفع تعويض - ومن ذلك بعض الرسوم التي ندفعها للتمتع بالموارد أكثر من الغير. وبعض المخالفة الممنوعة ابتداء، يجب أن يكون الردع قويا ومقنعا لتهذب النفوس، وبعض المخالفات لا يكفى مجرد التلويح بالردع المؤلم، بل التدمير المطلق، مثل القتل. والعقود الاقتصادية في أي مجتمع هي التي تفسر هذه التشريعات وتقدم مبرراتها الفلسفية.
بالعودة إلى السياق، فإن النظرية الاقتصادية تقدم تفسيرات مقنعة للتستر مثلا، ومع ذلك تم تجاهل النظرية الاقتصادية تماما، والنظر إلى الجانب القانوني البحت وفكر المخالفة التي تتطلب العقوبة فقط، ثم تم تغليظ العقوبات بطريقة غير مفسرة أيضا. ولهذا، فإن الدعوة إلى الاهتمام بالقضية الاقتصادية قبل النص القانوني، دعوة لها وجاهتها. ولن أكرر النقاش حول التفسير الاقتصادي لظاهرة التستر، وأحيل القارئ إلى مقالات سابقة في هذا الشأن، بينما يمكن فهم أهمية دراسة الأثر الاقتصادي لأي تشريعات مع تنظيم العمل المرن الذي صدر أخيرا من وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية.
فهذا التنظيم مقبول من الناحية الاقتصادية، بل يسهم في زيادة الناتج المحلي، وأيضا إيجاد فرص عمل، ويسهم "وهو الأهم بالنسبة إلى الوزارة" في تخفيض مؤشرات البطالة. وكل هذا مرتهن أصلا بمدى رغبة رجال الأعمال والمؤسسات في تنمية استثماراتها. لكن هذا التنظيم لم يكن ليقبل لو جاء بثوب قانوني بحت، بمعنى أن أنظمة العمل السابقة كانت تجرم مثل ذلك "تقريبا"، وكنا نسميها سعودة وهمية، حيث كان الموظف السعودي يوقع عقد عمل مكتمل الأركان، وله راتب شهري يدفع فعلا وليس صوريا، لكنه لا يوجد في مقر العمل إلا عند الطلب. هذا المشهد كان يمثل بالنسبة إلى مراقبي ومفتشي وزارة العمل سابقا، تلاعبا ويعاقب من يقوم به، رغم أنه يمثل عقدا اقتصاديا، ومخرجا طبيعيا، واتفاقا بين أطراف ذات أهلية، لكن النظام لم يكن يعترف بمثل هذه العقود، لذلك جرمها، ولعل من يقرأ الصحف في ذلك الوقت يكتشف مدى التشنيع لمن يقوم بذلك، بل أفرغت له المسلسلات الرمضانية حلقات خاصة، لنقده، والآن بعدما أعادت وزارة الموارد البشرية النظر إلى العقد بطريقة اقتصادية بحتة، ورأت أن يتم الاعتراف بهذه العقود وتنظيمها، تحولت من مشكلة إلى حل.
أرى مشكلة السعودة عموما، أن هناك مشكلات كثيرة ذات أبعاد اقتصادية، ومنها التستر، والتهرب الضريبي، وعمل الموظف العام في التجارة، كلها بشكلها الحالي تمثل مخالفات لأنظمة قائمة، ولو ناقشت أي قانوني فيها لوجدت من جدله فيها عجبا، وهذا طبيعي بحكم التخصص، لكنه بالنسبة إلى الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية الحديثة، يعد حاجزا منيعا أمام التغيرات الاقتصادية التي فرضها الواقع المعاصر.