الحرب على غزة .. قراءة من الداخل للأسباب والنتائج!
لم أتعود الكتابة في السياسة إلا مضطرا, ويوم الإثنين الماضي كتبت مقالا في هذه الصحيفة حول النتائج الأولية للاعتداء على غزة, وبعد توقف الحرب ظهر أن ما رآه العالم مما رافقها من تدمير وقتل وتشويه, مقصود به الأبرياء من المدنيين والأطفال, ما هو إلا العنوان الظاهر للحرب, أما ما ظهر بعدها من نتائج مأساوية على كل من الصعيد البشري والمدني, فلم يكن أحد يتصور أنه سيحدث مثله لأي شعب في العالم, بخاصة في هذا العصر الذي ندعي فيه أنه عصر الحرية وحقوق الإنسان, ومهما حاول الكاتب أن يعبر بالكلمات عن هول ما حدث وما رأى, فليس ثمة أبلغ من الصور الواقعية التي نقلتها وكالات الأنباء وأقنية التلفزة, حيث طغت المشاهد على التوجهات, ولم يعد ثمة مجال للتجاهل حتى من جانب من اعتادوا الوقوف ضد الحقيقة.
والمشهد كما يوحي به الواقع يقول إن إسرائيل كانت تبيت للاعتداء منذ زمن بعيد, للقضاء على المقاومة التي أقضّت مضجع كل إسرائيلي بالصواريخ التي تطلقها عن قرب, ولم تجد وسيلة لإيقافها, وكانت خدعة التهدئة هي الفرصة التي رتبت فيها أمور الحرب, ووجدت في نقضها من جانب المقاومة, كما تدعي, العذر أو المبرر لبدء الهجوم, وإن كانت لم ولن تعدم العذر في اعتداءاتها, وقد دفعها إلى التعجيل قرب انتهاء ولاية حليفها ونصيرها الأول, غير المأسوف على ذهابه, جورج بوش, وعلما أن خليفته, رغم تصريحاته بمناصرته لها, لن تكون له الرؤية العمياء ذاتها تجاه الوضع في الشرق الأوسط.
وكان التخطيط أن الحرب ستكون خاطفة يقضي فيها الجيش عدة أيام تبدأ بالقصف الجوي لمخازن الصواريخ وقواعدها, ومقار المقاومة والمباني الحكومية والطرق الرئيسة, لمنع الانتقال والتواصل, بيد أنها وجدت أنها بعد مضي الأيام المقررة لم تحقق شيئا, وأن إطلاق الصواريخ مستمر ولا بد من التوغل البري بالدبابات, ولهذا تم استدعاء الاحتياطي, وبدأ التركيز على تدمير المباني والمنازل على من فيها, في أي اتجاه تأتي منه الصواريخ, ولم تسلم من ذلك دور العبادة, ومقار وكالات الأمم المتحدة, عندما فقد المعتدي صوابه, ظنا منه أن المقاومين لجأوا إليها.
ومع مرور الأيام وشعور المعتدي بأنه لم يحقق شيئا من أهدافه, أخذ يصب حممه على المدنيين نكاية في المقاومة, ولاعتقاده أنه كلما زاد عدد القتلى من المدنيين سيتحول ذلك إلى نقمة وغضب ضد المقاومة لتسببها في الحرب, ولذلك تحولت الأيام الأخيرة إلى التركيز على الهدم والتدمير لأحياء بكاملها, ومع السكوت المريع للعالم عما يجري, مضت إسرائيل في عدوانها, ولم تكترث حتى بالقرار المخجل للأمم المتحدة, إلى أن جاءها الإنذار على لسان الزعيم الجديد للبيت الأبيض, بأنه لا يمكن أن تستمر الحرب والناس هناك يحتفلون بالتنصيب, كي لا تشوه مشاهد الدماء التي تسيل في غزة مشاهد الاحتفالات التي كلف الإعداد لها ما يفوق 150 مليون دولار, ليس هذا فحسب, بل إن على إسرائيل أن تسحب آخر جندي أو قطعة سلاح قبل بدء مراسم الاحتفال, وكان أن فهمت إسرائيل الدرس, ومن يدري؟ فلو لم يكن هذا التزامن لم تتوقف الحرب.
والسؤال الكبير الذي ارتفع في كل مكان وعلى كل لسان هو: من المنتصر؟ والإجابة الموضوعية أنه لم تكن هناك حرب بالمعنى المفهوم للحرب, بل كان هناك هجوم واعتداء على شعب أعزل لا يملك من الأسلحة إلا سلاح الإيمان بحقه وعدم المساومة على هذا الحق, مهما كان الثمن, والثمن دفعه الشعب في صورة دماء الأبرياء التي تروت بها الأرض, لكن هذا الثمن قد جُيّر بلا شك لحساب القضية, فلم تكن في يوم من الأيام مثلما هي الآن بعد العدوان, أشد صلابة وقوة وإيمانا, حتى في وجدان الذين كانوا بعيدين عنها من شعوب العالم, فكل الأرواح التي أزهقت والدماء التي سالت ستبقى رصيدا يمد المناضلين بالقوة والعزيمة لمواصلة الكفاح.
أما على الصعيد الميداني, فإن جرد الحساب التالي يوضح من هو المنتصر ومن هو المهزوم:
ـ قتل النساء والأطفال والمدنيين بعامة لا يعد شجاعة أو انتصارا في الحروب, بل هو عار يلحق بالمعتدي, ونقاط سوداء تسجل عليه, فضلا عن أنه مخالفة صريحة لمعاهدات الأمم المتحدة, واتفاقيات حقوق الإنسان واتفاقيات حماية المدنيين في الحروب.
ـ لم تنجح إسرائيل في تحقيق هدفها الأول, وهو منع إرسال الصواريخ والقضاء على مخازنها ومنصات إطلاقها, فقد ظلت هذه الصواريخ تتساقط على إسرائيل وتثير الرعب في سكانها, ولم يعثر الجيش الإسرائيلي على مخابئ الصواريخ التي بدت لهم وكأنها في حراسة الجن داخل الأرض, ناهيك عن منصات إطلاقها, وكيف لهم أن يعثروا عليها وهي أكتاف تتحرك كالأشباح.
ـ لم تنجح إسرائيل في القضاء على هدفها الثاني وهو القضاء على المقاومة, أو إضعافها بالتركيز على اغتيال رموزها وقادتها, ورغم إزالة أحياء بكاملها بحثا عنهم, فإنه لم يستشهد منهم سوى اثنين هما رمضان والريان, وكأنها لا تعلم أن المقاومة ليست مختزلة في أسماء أو أشخاص بعينهم, إنما المقاومة تتمثل في كل من يتنفس القضية ويؤمن بها, وحتى لو أفنت إسرائيل ربع السكان, وهي غير قادرة, فالباقون كلهم مقاومون, ويتضاعفون أكثر من الإسرائيليين, والمستقبل ينبئ عن أن اليهود سيكونون أقلية, لكن الزعماء الإسرائيليين لا يدركون الحقائق ولا يهمهم مستقبل إسرائيل لأنهم طلاب زعامات حزبية مؤقتة, هدفها احتلال المناصب وتحقيق المكاسب لأشخاصهم.
ـ لم تنجح إسرائيل في تحقيق هدفها الثالث من الحرب وهو تحرير جنديها الأسير منذ سنوات لدى المقاومة, وكأنها أرادت بذلك أن تكون أشجع من أمريكا بعثورها عليه قبل أن تعثر أمريكا على مطلوبها الأزلي (بن لادن), وكأنها لا تدرك أن أسيرها جندي تم أسره في معركة, بينما سجونها تضيق بـ 14 ألف مواطن فلسطيني, من رئيس البرلمان ونوابه إلى العمال العاديين.
ـ تضييق الخناق على المقاومة, بتداعي الدول الكبرى للهرولة إلى مراقبة منع دخول السلاح إلى غزة, لن يكون الحل, بقدر ما يكون الحل في تركيز تلك الدول على الضغط على إسرائيل بقبول العرض السخي الذي قدم لها, وإلا فإن الفلسطينيين سيجدون السلاح بأي طريقة, ولو من باطن الأرض, عبر الأنفاق التي لم تستطع إسرائيل هدمها بالكامل, وأعيد العمل فيها قبل توقف الحرب, كما أن هذا المنع سيكون السبب في تطوير تصنيع السلاح محليا, وأهم عنصر فيه هو الصواريخ كم تعلم إسرائيل. ثم بأي حق يمنع وصول السلاح لمعتدى عليه محاصر, لكي يدافع عن نفسه, ويقدم هذا السلاح للمعتدي دون حدود في عصر نسميه عصر الحرية وحقوق الإنسان؟ والله من وراء القصد.