الكساد الأعظم في عشرينيات القرن الـ 21 «2 من 2»
سيتسم عالم ما بعد الجائحة بقيود أشد، إحكاما على حركة البضائع والخدمات والأموال والعمالة والتكنولوجيا والبيانات والمعلومات. وهذا ما يحدث الآن بالفعل في قطاعات الدواء والمعدات الطبية والغذاء، حيث تقوم الحكومات بفرض قيود على التصدير، إضافة إلى إجراءات حماية أخرى لمواجهة الأزمة.
وستسهم المشاعر الناقمة على الديمقراطية في تعزيز هذا التوجه، إذ غالبا ما يستغل القادة الشعبويون الضعف الاقتصادي، وتفشي البطالة واتساع فجوات التفاوت وعدم المساواة لخدمة توجهاتهم. ومع تزايد انعدام الأمن الاقتصادي، سيكون هناك اندفاع قوي للتضحية بالأجانب للمرور من الأزمة. وسيكون العمال الكادحون من ذوي الياقات الزرقاء وفئات واسعة من الطبقة المتوسطة أكثر تأثرا بالخطاب الشعبوي، خاصة عندما يتعلق الأمر بمقترحات لتقييد الهجرة والتجارة.
يقودنا ذلك إلى عامل ثامن، وهو: المواجهة الجيواستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين. فمع بذل إدارة ترمب كل جهد ممكن لتوجيه اللوم للصين وتحميلها المسؤولية عن الجائحة، سيصر نظام الرئيس الصيني شي جين بينج على مزاعمه بشأن تآمر الولايات المتحدة لمنع صعود الصين سلميا. كما ستزيد حدة الانفصال الصيني - الأمريكي في التجارة والتكنولوجيا والاستثمار والبيانات والترتيبات النقدية.
الأسوأ من ذلك أن هذا الانفصال الدبلوماسي سيهيئ الساحة لحرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة وخصومها، ولا أعني هنا الصين فقط، بل روسيا وإيران وكوريا الشمالية أيضا. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، تتوافر الأسباب لتوقع تصعيد مفاجئ في الحرب الإلكترونية السرية، التي من الممكن أن تفضي إلى اشتباكات عسكرية بالأسلحة التقليدية. وبما أن التكنولوجيا تمثل السلاح الرئيس في الصراع على السيطرة على صناعات المستقبل ومكافحة الأوبئة، سيتزايد اندماج القطاع التكنولوجي الخاص الأمريكي في مجمع الصناعة والأمن القومي "المجمع الصناعي العسكري". ثمة خطر أخير لا يمكن تجاهله وهو الاختلال البيئي، الذي يمكن أن يحدث دمارا اقتصاديا أكبر كثيرا من أي أزمة اقتصادية، كما أظهرت لنا أزمة "كوفيد - 19". فالأوبئة المتكررة "مثل فيروس نقص المناعة البشرية "الإيدز" الذي ظهر منذ ثمانينيات القرن الماضي، ومتلازمة الالتهاب التنفسي الحاد "سارس" في 2003، وإنفلونزا الخنازير في 2009، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية في 2011، وفيروس إيبولا في الفترة من 2014 حتى 2016" تعد من صنع الإنسان في الأساس، حيث تولدت بسبب رداءة معايير الصحة والنظافة الصحية، وسوء استخدام النظم الطبيعية، والترابط المتنامي في عالم تسوده العولمة. وفي الأعوام المقبلة، ستصبح الأوبئة وكثير من الأعراض المرضية الناشئة عن تغير المناخ أكثر تكرارا وحدة وتكلفة.
تلك المخاطر العشرة التي كانت بالفعل تلوح جلية في الأفق قبل ظهور فيروس كورونا، تهدد الآن بإشعال عاصفة قوية تجرف الاقتصاد العالمي بأكمله إلى عقد من اليأس. وربما استطاعت التكنولوجيا والقيادة السياسية الأكثر كفاءة بحلول ثلاثينيات هذا القرن تقليل وحل وتحجيم كثير من تلك المشكلات، ما سيعطي الفرصة لظهور نظام دولي أكثر شمولية وتعاونا واستقرارا. لكن أي نهاية سعيدة تقوم أولا على افتراض إيجاد طريق للنجاة من الكساد الأعظم المقبل.
خاص بـ"الاقتصادية"
بروجيكت سنديكيت، 2020.