التعليم في بؤرة الاهتمام
في أجواء ربيعية حيث الخضرة والزهور والرائحة العطرة, التي تتمتع بها روضة خريم كلما من الله عليها, وعلى البلاد بالأمطار كما حدث هذه السنة, كانت هذه الروضة, وفي يوم الإثنين الموافق 24/12/1429هـ على موعد مع جلسة مجلس الوزراء الأسبوعية, التي عقدت برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز. واعتمد المجلس في هذه الجلسة ميزانية عام 1430/1431هـ لتبلغ 475 مليار ريال بزيادة قدرها 65 مليار ريال على ميزانية العام الماضي 1429/1430هـ, التي كانت 410 مليارات ريال. هذا فيما يتعلق بالمصروفات, أما إيرادات العام الماضي فجاءت ضخمة نظراً لارتفاع أسعار النفط إلى ما يقارب 150 دولارا للبرميل الواحد, ما ترتب عليه فائض مالي ضخم قارب 600 مليار ريال, وهذا الفائض في الإيرادات تم توجيهه ليكون ضمن احتياطيات الدولة. ومع الانخفاض الشديد في أسعار النفط الناتج من قلة الطلب خلال الأشهر الماضية, لذا فإن العجز المتوقع في ميزانية العام المقبل, إذا استمرت أسعار النفط على ما هي عليه هذه الأيام, سيكون 65 مليار ريال, ولعل في هذه الأرقام حقيقة لا بد من أن تستوقف الاقتصاديين والمشرعين ومتخذي القرار, لإعادة النظر في الأولويات وضرورة استثمار الفوائض المالية, وجزء من الموارد المستقبلية في إيجاد بدائل اقتصادية للوطن حتى لا يكون البترول هو المصدر الأساس, فإذا ارتفع سعره زادت الإيرادات والميزانية, وإذا انخفض سعره انخفضت الإيرادات والميزانية, وتأثرت بذلك المشاريع وبرامج التنمية, خاصة أننا بلد ينمو سكانياً بصورة كبيرة, وهذا من شأنه زيادة الطلب على الخدمات من مدارس, جامعات, كهرباء, طرق, مياه, وسائل اتصال, وخدمات صحية, وهذه تتطلب تنفيذ البنى التحتية اللازمة إذا ما أريد لهذه الخدمات وغيرها أن تستمر, إضافة إلى مصروفات التشغيل والصيانة والتوسع.
لقد سعدت وسعد غيري من أبناء الوطن, ونحن نتأمل في هذه الأرقام الضخمة, ولعل الأموال المخصصة للمشاريع الجديدة, التي تبلغ 225 مليار ريال تمثل أحد الشواهد على توجيه الميزانية بما يخدم الوطن والمواطن, وهذا الرقم يزيد على ما خصص لمشاريع العام الماضي بـ 36 في المائة, أي يزيد بـ 81 مليار ريال, حيث كان المبلغ المخصص للمشاريع في ميزانية العام الماضي 124 مليار ريال, وفي هذه الزيادة, ونسبتها مقارنة بالعام الماضي دلالة لا بد أن نقف عندها ونتساءل: هل هذه الزيادة في الإنفاق على المشاريع نسبة ثابتة تقتضيها نسبة النمو السكاني والاجتماعي؟ أم أن الوطن يمر بطفرة مشاريع في جميع المجالات, وهذا يوجب هذه الزيادة؟ أعتقد أن هذه النسبة مردها كثرة المشاريع التي تم اعتمادها أخيرا كالجامعات الجديدة, والمستشفيات, والمراكز الصحية, والمدارس, والطرق, لكن لا شك أن هناك نسبة من هذه الزيادة في المشاريع نسبة ثابتة, وتتناسب مع الزيادة السكانية, والنمو الاجتماعي, ما يعني أن هذه النسبة قد تكون لازمة سنوياً. المجتمع ينمو, والمدن تتسع, والطلب على الخدمات يزيد, وهذه تستوجب مشاريع جديدة, كما أن المشاريع القائمة تحتاج إلى تجديد, وصيانة, وتشغيل, وهذه أمور لا بد من التفكير الجدي في توفير الموارد المالية التي تضمن استمرار هذه المشاريع, وعطائها الذي لا يمكن الاستغناء عنه بأي حال من الأحوال في الحياة المعاصرة, فالحياة لم تعد خيمة بلا كهرباء, ولا ماء, ولا مدارس, ولا طرق معبدة, ولا مستشفيات فهذه أمور أصبحت من الضرورات, التي لا يمكن الحياة من دونها.
لقد شدني, وأنا أقرأ في أرقام الميزانية المبلغ المخصص للتعليم بكل مراحله وأنواعه من تعليم عام, وتعليم عال, وتدريب للقوى العاملة, والبحوث, وبرنامج الابتعاث, الذي يحمل اسم خادم الحرمين الشريفين, حيث بلغ 122 مليار ريال ما خصص لقطاع التعليم, وهذا المبلغ يمثل ما يزيد على ربع الميزانية, وما من شك أن تخصيص هذا المبلغ لم يأت من فراغ, بل جاء من إدراك حصيف لأهمية التعليم في حياة الأمم والشعوب, ذلك أن العلم يمثل النبتة التي إذا غرست بشكل جيد, وعني بها ستثمر, وتؤتي أكلها اليانع الذي يستفيد منه الجميع. الدول الصناعية الـ 30 في العالم تبلغ نسبة الزيادة السنوية في ميزانية التعليم فيها 5 في المائة من الناتج الوطني العام, أي أن ميزانية التعليم يفترض أن تزيد سنوياً بما مقداره 5 في المائة من الناتج العام, وهذا لا يعني أن نسبة ما يخصص للتعليم هو 5 في المائة, بل إن ما يضاف على ميزانية السنة السابقة هو 5 في المائة من الناتج العام, ولذا طالب وزير التربية الياباني أن تزداد ميزانية وزارته لعام 2009 بنسبة 5 في المائة بدلاً من 3.5 في المائة, الذي هو معمول به الآن.
الإنفاق في التعليم استثمار في الحاضر والمستقبل, فالشعب المتعلم ينتج احتياجاته من غذاء, وكساء, ومواد بناء, وغيرها, كما أن الشعب المتعلم يحترم النظام, ويحافظ عليه, وهذا ينعكس بدوره على الأمن وعلى سلامة البيئة ونظافتها. إن مقارنة بين المجتمعات في هذا العالم تكشف أن الريادة الصناعية, والتقنية, والعسكرية, والطبية, والاقتصادية في يد الشعوب المتعلمة التي أخذت السبق في تأسيس محاضن العلم من مدارس, جامعات, معاهد, ومراكز بحوث. تاريخ بعض الجامعات في بعض الدول يعود إلى ثلاثة وأربعة قرون, كما أن ميزانية بعض الجامعات تفوق ميزانيات بعض الدول, ولذا لا غرابة أن تكون متقدمة, أو رائدة في مناحي الحياة, ولذا ما نخصصه, ونصرفه على مؤسسات العلم, وبيوته سيكون أثره أكثر وضوحاً بعد فترة من الزمن, رغم أننا بدأنا نلمس هذا الأثر في مجتمعنا, فالمعلم, الأستاذ الجامعي, الطبيب, المهندس, العسكري, المفكر, الفقيه, القاضي, وغيرهم, كل هؤلاء أنتجتهم, وخرجتهم مدارسنا, وجامعاتنا, إضافة إلى المدارس والجامعات التي تسنى للبعض الدراسة فيها خارج الوطن. المدرسة, والجامعة التي تقام اليوم سيستمر عطاؤها لأزمنة مديدة ويتفيأ ظلالها أبناء الوطن وغيرهم, فهل نعمل جميعاً على حسن إدارة مرافقنا, ونصرف أموالنا بالشكل الذي يؤهلنا لمنافسة الآخرين, ومقارعتهم في المجالات كافة؟!