الأزمة المالية العالمية وتحقيق طموحاتنا التنموية!

في معرض حديثه عن التنمية الاقتصادية لدول العالم الثالث، يقول الاقتصادي المشهور راؤل بريبش، إن التعليم والصحة ركيزتان أساسيتان للتنمية الاقتصادية في مختلف الدول وعلى وجه الخصوص الدول النامية، فعندما تُعاني هذه الدول وطأة العجوزات في موازين مدفوعاتها فإنها تلجأ إلى خفض الإنفاق على هذين القطاعين المهمين واللازمين لدفع التنمية إلى الأمام. كيف لا والتعليم والصحة أساس في التقدم العلمي والفني وزيادة الإنتاجية، فالتنمية لا تتم إلا من خلال أناس أصحاء وعلى قدر من العلم والمهارة، فهي إذاً وسيلة نسعى من خلالها إلى تحقيق أهداف وطنية مشروعة ومرسومة بعناية, وذلك من خلال ترجمتها على شكل خطط موجهة بدقة وعناية فائقة، ومُصاغة لتحمل في مضامينها طموحات قيادة الوطن لينعم أفراده بحياة كريمة في ظل ما أفاء الله به على هذا الوطن الكريم من خير عميم ورزق وفير.
وغني عن القول، إن من الحقائق التي تتميز بها البلدان النامية بصورة عامة عدم كفاية البُنى التحتية, والتي تشمل التعليم بجميع مراحله التعليمية، الصحة بمرافقها كافة، وكذلك النقل والمواصلات، فهذه الخدمات تقدمها حكومات البلدان النامية كونها تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر في الإنتاج ومن ثم التنمية. في العادة تتصف هذه البلدان بخصائص تميزها عن غيرها من البلدان المتقدمة، انخفاض إنتاجية عمالتها, وبالتالي إمكانية زيادة هذه الإنتاجية عن طريق التعليم والتدريب وتوفير العناية الصحية ما يمكن مواطنيها من العمل بنشاط ولساعات أطول. أما عدم توفير شبكة المواصلات بجميع أنواعها فبالتأكيد ستنعكس سلباً على حركة السلع بين المُنتج والمستهلك ما يسبب ضعف تكامل القطاعات الاقتصادية المحلية بعضها مع بعض.
السؤال هنا: إلام يهدف اقتصاد التنمية؟ يهدف وبشكل جلي إلى دراسة عمليات التغيير البنيوي لاقتصادات البلدان النامية من ناحية الأسباب ووضع السياسات الملائمة لعلاج حالات الفقر وإعادة توزيع الدخول بطريقة تتصف بالعدالة مع خلق فرص العمل المناسبة لهم. أي بمعنى آخر، البحث عن العوامل الإيجابية لرفع معدلات نمو الدخل الوطني وإعادة توزيع هذه الدخول وإحداث تغييرات هيكلية في هذه الاقتصادات من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية، لهذا فإن تطبيق نظريات التنمية يساعدنا على وضع تصور أعمق لواقع البلدان النامية وما تواجهه من مشكلات لتحقيق التنمية المستدامة واستخدام النظريات الاقتصادية الملائمة لواقع هذه الدول وما تحدثه من أثر إيجابي في عمليات التنمية، إضافة إلى دور التجارة الخارجية في حصول التنمية المرسومة مع تأكيد دور الدولة المحوري والمهم في تنفيذ هذه السياسات وتحقيق الأهداف, خاصةً في وقتنا الحاضر, الذي غدا فيه حضور الدولة من الأهمية بمكان.
لا شك أن هناك عوائق داخلية تعوق التنمية كالعوائق الاجتماعية مثل بعض العادات والتقاليد التي تقلل قيمة العمل ولا تشجع عليه ألبتة, والاقتصادية كضيق السوق، إلا إن العوامل الخارجية لا تزال تلعب دوراً كبيراً في التأثير في التنمية المستدامة التي أسهمت في وجود عوامل ضغط على معدلات النمو الاقتصادي للبلدان النامية بصورة عامة. فلو أمعنا النظر على سبيل المثال في نظرية المزايا النسبية في التجارة الدولية لوجدناها تصب في مصلحة الدول المتقدمة لأن تكلفة إنتاج السلع في هذه البلدان قليلة مقارنة بالبلدان النامية, حيث يتراكم رأس المال والموارد الطبيعية، بينما الحال في البلدان النامية عبارة عن اقتصادات مزدوجة في الغالب وتعتمد على مصدر واحد للدخل كالنفط والكاكاو والقهوة .. إلخ، وبذلك أصبح هذا القطاع المتقدم معزولا تماماً عن بقية القطاعات الاقتصادية الأخرى بسبب ضعف الروابط الأمامية والخلفية له ما جعلها خاضعة وتحت رحمة تقلبات أسعار المواد الأولية, الذي ساعد على عدم حصول تغيرات هيكلية رئيسية وجذرية لهذه الاقتصادات. بناء على هذه الحقيقة فإن قطاع التصدير سيكون مفيداً وعلى وجه الخصوص عندما تكون روابطه الأمامية والخلفية قوية مع بقية قطاعات الاقتصاد الوطني.
من المُتعارف عليه أن إنجازات الدول الصناعية التنموية التي سبقتنا بمراحل مرت بقرون من التجارب مع التنمية, ولهذا فإن مسألة تراكم رأس المال ومن هذه التجارب مهم جدا وهذا الشرط قد يكون ضروريا لكن ليس كافيا، فقد يحدث أن يبحث البلد عن رساميل لكن ليس بالضرورة من ثروة تراكمت مع مرور الوقت، فمثلا ألمانيا كان لديها القليل من رأس المال عندما بدأت خطواتها التنموية، ومن هذا المنطلق فمن الممكن توفير هذه المبالغ عن طريق الدولة وبطرق معروفة, خاصة إذا كانت الحكومة جادة في تحقيق التطور الصناعي. نخلص من هذا إلى أن معوقات التنمية يمكن مواجهتها والبحث عن حلول وبدائل إيجابية لها شريطة التعرف عليها ووضع الأسس والاستراتيجيات السليمة من أجل تجاوزها والعمل على تحقيق أهدافنا.
مع إيماننا العميق بمكانة التعليم وأهميته في تحقيق التنمية الاقتصادية، فهو في الفقه الاقتصادي سلعة ذات منفعة متعدية, أي أن الأثر الإيجابي لمن يحصل عليه لن ينحصر فيه, بل يتعداه إلى جميع أفراد المجتمع, ونلاحظ في هذا الإطار حرص الحكومات في الدول المتقدمة على مجانية التعليم وإلزاميته من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية, لا بل إن تقديم هذه الخدمة لا تتم إلا عن طريق الدولة ولا تمنح الفرصة للقطاع الخاص للقيام بها, وذلك من باب ضمان جودة المُخرجات, التي لا بد أن تحمل مواصفات معينة لمصلحة المجتمع ككل. ومع الأسف الشديد نجد أن مجانية التعليم لا تزال قائمة في مملكتنا الحبيبة، إلا أن السماح للقطاع الخاص بالتوسع في تقديم هذه الخدمة المهمة يُعد انتكاسة كبيرة للأهداف التنموية التي نسعى إلى تحقيقها. دخول القطاع الخاص بكل ثقله, والذي ما فتئ يعمل بكل جد ونشاط كي يستقطب شريحة كبيرة من المستهلكين لهذه الخدمة, أسهم وبشكل كبير في تدني مستويات مخرجات التعليم العام والتي لا تتناسب تماماً مع متطلبات التعليم الجامعي التنويري الشامل ولا حتى مع متطلبات تنويع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد السعودي, خاصة لعصر ما بعد النفط. ومع الشعور بالأسى والمرارة نشاهد تركيز التعليم الأهلي على مخرجات هدفها فقط الحصول على الوظيفة دون الهدف الأسمى للتعليم, الذي يغيب تماما عن ذهنية القطاع الخاص الهادفة إلى الربح, والربح ليس إلا. أملنا كبير في ألا تنعكس الأزمة المالية العالمية على تقليص مخصصات التعليم والصحة مستقبلاً في ظل استمرار التوقعات بحصول عجز في ميزان المدفوعات للسنتين المقبلتين والتوجه لإعطاء القطاع الخاص الحرية في تقديم الخدمات التعليمية والصحية وفي ممارسة أدواره الربحية, وبذا تتخلص الحكومة من الالتزامات المالية تجاه التعليم والصحة بمزيد من التخصيص, الذي قد لا يحقق النتائج المرجوة ولا الأهداف المأمولة على المستوى الوطني ككل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي