رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


ما السبيل إلى رسم مستقبلنا الاقتصادي؟

في ظل التقلبات الحادة في أسعار النفط الخام والمشتقات النفطية والبتروكيماوية التي تمر بها الأسواق العالمية بين فترة وأخرى وما يترتب على ذلك من تذبذب في الإيرادات المالية للبلدان المنتجة والمصدرة لتلك السلع، وفي مقدمتها المملكة، التي يعتمد اقتصادها الوطني بصورة رئيسة على الإيرادات المالية المتحققة من تصدير تلك السلع، يصبح التخطيط لإدامة عجلة النمو الاقتصادي خلال السنوات العجاف التي تتراجع خلالها أسعار الصادرات النفطية والبتروكيماوية في الأسواق العالمية من أولويات صُناع القرار الاقتصادي والسياسي. والسؤال المطروح بقوة هذه الأيام في ظل الأزمة المالية العالمية وتراجع إيرادات المملكة من الصادرات النفطية والبتروكيماوية: ما السبيل إلى رسم مستقبلنا الاقتصادي؟ وكيف يمكن ترشيد عملية صُنع القرارات الاقتصادية بما ينقلها من كونها ردود أفعال تخطئ أحياناً وتصيب أحياناً أخرى تبعاً لردة الفعل، إلى استراتيجيات وطنية تسهم في تعزيز الفوائد الناجمة عن القراءة الصائبة للتطورات السريعة في الاقتصاد العالمي وتقليل آثارها السلبية في الاقتصاد الوطني. وهذه المقالة محاولة لتسليط الضوء على إحدى أدوات "استشراف المستقبل" التي تقدم بدورها إجابة عن هذا السؤال المهم مع الإقرار أن الموضوع أكبر من أن يُغطى بمقالة صحافية.

مراكز الدراسات الاستراتيجية

في عالم اليوم الذي يتسم بالتحولات السريعة في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، تبرز أهمية القراءة الصحيحة لتلك التحولات باعتبارها المفتاح أو المدخل نحو بلورة استراتيجيات وطنية تهدف إلى تعظيم الفوائد من تلك المتغيرات وتقليل تأثيراتها السلبية إلى أقصى حد ممكن. وتقوم بهذا الدور في العادة مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية، والتي تعد بمثابة المطابخ الخلفية للسياسات والقرارات الاستراتيجية. ويطلق على تلك المؤسسات "مراكز بلورة الأفكار" أو ما يسمى في الدول الصناعيةThink Tanks كونها تقوم بإعداد دراسات علمية تستند إلى سيناريوهات عدة تعالج كل الاحتمالات الممكنة وتحيلها إلى صُناع القرار في السلطتين التشريعية والتنفيذية لاتخاذ قرارات تتناسب والمصلحة العامة. واكتسب بعض تلك المراكز ـ وتحديدا في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان ـ نفوذا وقدرة كبيرة على التأثير في توجهات حكومات تلك الدول وسياساتها

واقع مراكز الدراسات الاستراتيجية محليا وإقليميا
إدراكا لأهمية الدور الذي تلعبه مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية، ظهرت في المملكة وفي عدد من دول مجلس التعاون الخليجية خلال السنوات الماضية مجموعة من مراكز الدراسات الاستراتيجية، تشترك في كونها حكومية أو ممولة من الحكومات، الأمر الذي يعكس وعي تلك الحكومات بالدور الذي يمكن أن تلعبه تلك المراكز في ترشيد عملية صُنع القرار على مختلف مستوياتها.
وبعد مضي أكثر من عقد على ظهور مراكز الدراسات الاستراتيجية في دول المنطقة، يبدو الوقت مناسبا لطرح عدد من التساؤلات حول أداء تلك المراكز، منها: هل نجحت تلك المراكز في القيام برفد صُناع القرار برؤية محايدة تستند إلى تحليل علمي للتطورات المتسارعة محلياً وإقليميا ودولياً، بما يساعدهم على اتخاذ قرارات تخدم المصلحة العامة؟ أم أن تلك المراكز لم ترق بعد إلى مستوى رفد صُناع القرار والمؤسسات التشريعية بما يساعدهم على تجنب اتخاذ القرارات والسياسات التي تتسم بكونها ردود أفعال عرضة للصواب أو الخطأ تبعاً لردة الفعل؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما أهم الأسباب التي حالت دون قيام تلك المراكز بهذا الدور؟
وفي تقديري أن غالبية تلك المراكز سواء العاملة منها في المملكة أو في الدول الخليجية ما زالت بعيدة عن ممارسة هذا الدور، بل قد لا أبالغ إذا قلت إن دورها اختزل ليقتصر على عقد الندوات والمحاضرات العامة التي تناقش مواضيع هامشية وبطروحات سطحية لا تؤهلها لبلورة سياسات أو قرارات استراتيجية! ولعل أبرز الأسباب التي تقف وراء تواضع مخرجات تلك المراكز تشمل:
1. كون هذه المراكز هيئات حكومية أو ممولة من الحكومات، يلقي بظلال من الشك على قدرتها على الموازنة بين حيادها ونهجها العلمي من جهة، وبين استمرار الدعم الذي يمثل شريان الحياة لها من جهة أخرى، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بنقد بعض البرامج والسياسات الحكومية.
2. غياب التأطير المؤسسي (القانوني) الذي يحدد الدور الاستشاري لمراكز الدراسات الاستراتيجية، والذي يحدد نوعيته مدى اعتماد صُناع القرار عليه.
3. غياب الشفافية والمناخ الملائم لقيام هذه المراكز بدورها في تشخيص المشكلات، واقتراح الحلول العملية لها، فما زال بعض المسؤولين عندنا يفكر بطريقة: أن عدم الاعتراف بالمشكلة هو السبيل إلى حلها .. ولذلك تجد هؤلاء يمنعون عن الباحثين في تلك المراكز بيانات أو إحصائيات تخص مؤسساتهم أو قطاعاتهم، ما يؤدي إلى تعطيل دور هذه المراكز على قلتها. وقد يصل الأمر إلى أن بعض هذه المراكز يكتسب خصومة بعض المسؤولين عن المؤسسات الحكومية التي يتم تسليط الضوء على ضعف أدائها، الأمر الذي يجعل هؤلاء المسؤولين يشنون عليها حربا خفية بهذا القدر أو ذاك.

هذا الواقع لا يقلل قطعا من دور بعض مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية المحلية (التابعة للجامعات الوطنية وعدد من الوزارات الهيئات الحكومية) والخليجية (مثل مركز الخليج للأبحاث) التي ركزت في الغالب على طرح عدد من القضايا السياسية (الدولية منها والإقليمية على وجه التحديد) على حساب المواضيع والقضايا ذات الطابعين الاقتصادي والاجتماعي. وهذا ما يجسده غياب الأزمة المالية العالمية عن أجندة المواضيع التي تناولتها مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية العاملة في دول المجلس خلال الفترة الماضية. إضافة إلى ذلك فإن مخرجات تلك المراكز اتسمت في الغالب بطابعيها الأكاديمي والتنظيري وبغياب الرؤية المستقبلية عن منهجية تلك الدراسات والأبحاث. والتفسير المقبول لذلك هو كون تلك المراكز لا تمتلك أدوات دراسة واستيعاب التطورات الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي تحديد اتجاهات التطور ومساراته المرتقبة، باعتبارها الركن الآخر المكمل لاستيعاب المتغيرات الاقتصادية العالمية والنجاح في استشراف المستقبل.

معهد متخصص لدراسات الطاقة

يعلم كثير من المختصين في قطاع الطاقة أن فرنسا وهي دولة غير منتجة للنفط تمتلك معهد البترول الفرنسي IFP الذي يعد أحد أفضل مراكز البحث والتطوير العالمية المتخصصة في تطوير تقنيات ومنتجات في قطاعات: الطاقة والنقل والبيئة. ويأتي الجزء الأكبر من موارد هذا المعهد من الدعم الحكومي، إضافة إلى موارده الذاتية المتحصلة من بيع التقنيات والحلول التقنية والاستشارات الفنية والهندسية. وبلغ رصيد هذا المعهد من براءات الاختراع بنهاية عام 2007 أكثر من 40 ألف براءة اختراع منها 12800 براءة اختراع سارية المفعول!! ووجود هذا المؤسسة في فرنسا وتميزها عالميا يعد مؤشرا إلى أن نجاح مؤسسات البحث العلمي ومثلها مراكز الدراسات الاستراتيجية يعتمد بالدرجة الأساس على توافر العقول المتميزة وتهيئة البيئة المناسبة لعملها الفكري والإبداعي.
ولما كانت المملكة تتربع على عرش صناعة الطاقة في العالم وتزخر، ولله الحمد، بوجود كفاءات متخصصة في قطاع النفط والغاز، فإنه يصبح من الصعب تصور كونها لا تستضيف على أراضيها مركزا عالميا متخصصا في دراسات قطاع الطاقة يكون بمثابة Tank Think يستشرف توجهات الصناعة عالميا ويرسم في ضوئها الاستراتيجيات والسياسات المناسبة لتحقيق أفضل العوائد الاقتصادية والاجتماعية الممكنة من الموارد النفطية الناضبة ولأطول فترة ممكنة. مثل هذا المركز مطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى لأنه سيوفر أرضية للحوار ولتلاقح الأفكار فيما بين الباحثين العاملين فيه نابعة من الخلفيات المختلفة لهؤلاء من جهة وبينهم وبين قادة قطاع صناعة الطاقة محليا وعالميا، الأمر الذي سيقود إلى فهم متوازن وعميق للقوى الاقتصادية التي تحدد أو تؤثر في مسار أسواق الطاقة العالمية مستقبلا وصولا إلى تحصين الاقتصاد الوطني من آثارها السلبية أو على الأقل تحييد تلك الآثار. إضافة إلى ذلك فإن إيجاد مثل هذا المركز سيساعد على تشخيص الفجوة بين حلقات الصناعة النفطية في المملكة من جهة وبينها وبين المجتمع المحلي من جهة أخرى من خلال دراسة العلوم الاجتماعية Social Sciences المرتبطة بهذه الصناعات. إلى جانب ذلك وفي ضوء المتغيرات والتحديات التي تواجه صناعة النفط نحتاج إلى مركز وطني يضطلع بمهام القيام بدراسات علمية متخصصة وتنظيم ورش عمل وندوات تناقش المستجدات التقنية في صناعة النفط كتقنيات الوقود النظيف، ورفع كفاءة استخدام الطاقة، وتقنيات احتجاز وتخزين الكربون، وتقنيات إنتاج مصادر الطاقة المتجددة وآثارها في أسواق النفط مستقبلا. وبموازاة ذلك من المهم أن تكون من ضمن أولويات عمل المركز وضع استراتيجية شاملة للطاقة في المملكة Comprehensive Energy Strategy.
وقد يكون من المناسب أن يكون المركز تحت مظلة جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية مع احتفاظه باستقلاله المالي والإداري أسوة بمعهد أكسفورد لدراسات الطاقة الذي أنشئ عام 1982 في المملكة المتحدة كمؤسسة تعليمية خيرية غير ربحية تملكها جامعة أكسفورد، إضافة إلى مجموعة من مؤسسات القطاع العام والمؤسسات الدولية والإقليمية من الدول المنتجة والمستهلكة للنفط التي أسهمت بتقديم منح مالية ساعدت المركز على تحقيق استقرار مالي طويل الأمد .

رؤية للمستقبل

في عالم اليوم الذي كشفت الأزمة الاقتصادية العالمية عمق ترابطه تبدو الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى لدراسات نوعية ودورية للمتغيرات الاقتصادية الدولية واستيعابها بغية النجاح في استشراف المستقبل وتحديد توجهاتنا المستقبلية التي تحقق المصلحة العامة. وإذا كنا متأثرين ولسنا مؤثرين في صياغة القوانين التي تنظم مسارات الاقتصاد العالمي بحكم حجم إمكاناتنا الاقتصادية والتقنية، فمن الواجب علينا أولا أن نلم جيدا بقوانين اللعبة وبإمكاناتنا وعناصر قوتنا وضعفنا، ثم نحاول بعدها أن نلعب وفق خطط علمية مدروسة حتى نجاري اللاعبين الكبار ومن ثم التفوق عليهم في مرحلة لاحقة. وغني عن القول إن تحقيق هذا الهدف يتطلب الاستثمار في إقامة مراكز دراسات وبحوث استراتيجية متميزة تستقطب خيرة العقول من داخل الوطن وخارجه لرفد صُناع القرار الاقتصادي في المملكة باستراتيجيات وخطط مدروسة تشكل بداية لمرحلة الانتقال من حالة ردود الفعل التي تتسم بها سياساتنا الاقتصادية إلى الفعل المستند إلى تخطيط علمي ورؤية واضحة.
إضافة إلى ذلك مطلوب مستقبلا وبسرعة أيضا أن يشمل دور هذه المراكز رسم نهج عام للتنمية الشاملة في المملكة، من شأنه أن يحقق الغايات المنشودة، وأهمها المضي في طريق الإصلاح الاقتصادي والتحديث وتفعيل بيئة علمية للبحث في القضايا التي تندرج تحت ما يسمى القضايا "الاستراتيجية" بمعناها الواسع، والذي يشمل قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية وكل ما له صلة بها. وهذا الأمر يستدعي دعم إقامة أكثر من مركز متميز للبحوث والدراسات الاستراتيجية في المملكة، وضمان دعم الدولة لها لتحقيق استقرار مالي طويل الأمد وتشجيع مساهمة المال الخاص في تمويل برامجها وصولا إلى منهجية علمية لاستشراف مستقبلنا ورسمه، بدلاً من أن يرسم لنا هذا المستقبل من قبل الآخرين .. ولكي ننجح في تحديد شكل المستقبل الذي نريده، لا بد أولا من تهيئة المناخ الملائم لقيام هذه المراكز بدورها على أكمل وجه .. وعلينا أن نعمل على تحقيق ذلك بأقصى سرعة ممكنة عملاً بمقولة إينشتاين: "لا يمكن انتظار المستقبل .. لأنه يأتي بسرعة".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي