العربية .. لغة ساحرة يتهددها التلوث

العربية .. لغة ساحرة يتهددها التلوث

أطلق العرب على اللغة العربية اسم لغة الضاد؛ لأنها اللغة الوحيدة من بين كل لغات العالم التي تحتوي على حرف الضاد، وهي تسمية حديثة نسبيا، لأن العرب لم يعرفوا قديما بأنهم هم القومية الوحيدة القادرة على نطق هذا الحرف بشكل صحيح، وتعد إحدى أكثر اللغات العالمية غنى بالمفردات والمصطلحات، حيث تحتوي على 12 مليونا و303 آلاف كلمة من دون تكرار، وأكثرها تأثيرا في لغات عالمية عدة، مثل الأمازيغية والفارسية والتركية والكردية والماليزية ولغات إفريقية أخرى.
تفيد تقديرات الأمم المتحدة بأن المتحدثين بالعربية لغة أولى يبلغون حاليا 280 مليون نسمة، يضاف إليهم أزيد من 130 مليون شخص يعدون العربية لسانهم الثاني؛ بعدما قرر عديد من الدول "السنغال، مالي، تشاد، وإريتريا..." عدّ العربية لغة رسمية ثانية، وتتوقع التقديرات ذاتها أن يصبح الناطقون باللسان العربي عند حلول عام 2050 زهاء 650 مليونا، وهو ما سيشكل نحو 7 في المائة من إجمالي سكان العالم.
تبقى لغة الأرقام في بعض الأحيان خداعة؛ فانتشار اللغة العربية - حتى إن وصل أقاصي الأرض - لن يكون ذا معنى متى أضحت هذه اللغة حافية وجافة، مثلما هي حال عديد من اللغات العالمية في سياق عملية "الترشيد". فأي فائدة ترجى من انتشار لغوي يكون على حساب جوهر اللغة، بصيغة أوضح ماذا سيبقى "للضاد" حين تفقد ذاك السحر الذي يجعلها اللغة الأكثر تفردا بين سائر اللغات؛ فعذوبة الألفاظ وتنوع المفردات وروعة التركيب... ميزات لا نظير لها في معظم اللغات.
وعن تلك الميزات الاستثنائية لهذه اللغة الفريدة قال شاعر النيل حافظ إبراهيم، متحدثا بلسانها: "أنا البحر في أحشائه الدر كامن/ فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي، فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني/ ومنكم وإن عز الدواء أساتي، فلا تكلوني للزمان فإنني/ أخاف عليكم أن تحين وفاتي".
عناية العرب بلسانهم، وحرصهم على البلاغة والبيان، لن تجد لهما نظيرا لدى بقية الأقوام والأمم، وكانت تلك العناية السبب وراء اندثار عديد من الألسن العربية مثل الثمودي والصفوي واللحياني... مقابل تعزيز عربيات أخرى، أشهرها قريش وطيئ وهذيل وثقيف... رغم ما يشوب بعضها من إبدال غريب وثقل على اللسان، وفي ذلك عابوا "عنعنة" تميم؛ فالهمزة في أول الكلمة تصير عندهم عينا "أذن/ عذن"، و"كسكسة" هوازن؛ حيث يجعلون بدل كاف المخاطبة سينا "عليكِ بالصبر /عليس بالصبر". و"تضجع" قيس؛ إذ يميلون الأحرف إلى الكسر. و"عجرفة" ضبة؛ فهم معروفون بالتقعر والجفاء في الكلام.
تكره العرب اللحن في القول، وكان موسم الحج محطة للتلاقح بين مختلف الألسن العربية، وفرصة لتهذيب وتشذيب اللسان العربي من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ، ما أنتج ثراء لغويا منقطع النظير، فنجد على سبيل المثال، أن لكل ساعة من ساعات الزمن في الليل والنهار اسما متميزا، فمن ساعات النهار: الشروق ثم البكور ثم الغدوة ثم الضحى ثم الهاجرة ثم الظهيرة ثم الرواح ثم العصر ثم القصر ثم الأصيل ثم العشي ثم الغروب. ومن ساعات الليل: الشفق ثم العتمة ثم السدفة ثم الفحمة ثم الزلة ثم الزلفة ثم البهرة ثم السحر ثم الفجر ثم الصبح ثم الصباح.
وقد بلغ بهم الضبط وتحري الدقة مبلغا، جعلهم يميزون بين كلمات وألفاظ نتداولها في الحياة اليومية كترادفات وأشباه، رغم ما بينها من اختلاف وتباين، فالفرقة أقلها ثلاثة، والطائفة أقلها أربعة، والرهط ما بين الخمسة حتى العشرة، فيما العصابة من العشرة إلى حدود الـ40، أما العصبة فهي من العشرة إلى الـ90، فيما البضع من ثلاثة إلى تسعة.
يوم كانت "الضاد" تجري من العربي مجرى دمه، لم يكن يطلق الكلام على عواهنه، فالكأس لا تسمى كأسا إلا إذا كان فيها ما يشرب، وإلا فهي قدح، ولا تسمى المائدة مائدة حتى يكون الطعام فوقها، وإلا فهي الخوان، ولا تسمى الحديقة بالحديقة إلا مع وجود سور لها، وبانعدامه تصير بستانا.
تقول العرب، في السياق ذاته، جلس الإنسان وبرك البعير وربضت الشاة وجثم الطائر، وتفرق بين السبط والحفيد، رغم تداولنا لهما كمترادفين، فالسبط هو ابن البنت، والحفيد فهو ابن الابن. ويذهب الناس إلى أن الطرب يكون في الفرح دون الجزع، وهذا غلط؛ لأن الطرب خفة تصيب المرء لشدة السرور أو الجزع، قال قيس بن الملوح "فقلن لقد بكيت، فقلت كلا/ وهل يبكي من الطرب الجليد، ولكن قد أصاب سواد عيني/ عويد ندى له طرف حديد".
في زمن صدأ اللحن ورطانة الأسلوب باللغات الدخيلة، لا تكاد الأكثرية من الناس تفرق اليوم بين الأعجمي والعجمي والأعرابي والعربي؛ فالأعجمي هو الذي لا يفصح ولا يبين كلامه، وإن كان عربي الأصل والنسب، والعجمي فهو المنسوب إلى العجم أفصح أم لم يفصح. والأعرابي هو البدوي وإن كان في الحضر، والعربي هو المنسوب إلى العرب سواء كان في البدو أم الحضر.
تفيد روايات تعود إلى زمن كان فيه العرب يتقنون صناع الكلام، بأن الحجاج بن يوسف الثقفي طلق زوجته هند بن النعمان بكلمتين فقط؛ بعدما عيرته حين دخل عليها قائلة "وما هند إلا مهرة عربية/ سليلة أفراس تحللها بغل، فإن ولدت فحلا فلله دره/ وإن ولدت بغلا فجاء به البغل". فقال لها "كنتِ فبنتِ"؛ أي كنت متزوجة، وصرت الآن بائنة بعد الطلاق.
أما اليوم بعد استفحال التلوث اللغوي، بقبول العربية الدخيل من لغات مجاورة، مثل اللغة الفارسية "أستاذ، إبريق، أسطوانة، إيوان، بهلوان، بيرق، خام، خنجر، شمعدان، طربوش، فهرست، قماش، مهرجان..."، واللغة التركية "دمغة، طابور، طباشير، طنجرة، قنبلة..."، واللغة اليونانية "أريكة، أساطير، أطلس، إقليم، برج، إسفلت، فانوس، فلسفة، فندق، قرطاس..."، واللغة الإيطالية "استوديو، أكاديمية، بارجة، بارون، بالون، بنك، سقالة، فاتورة، كبسولة، كمبيالة..."، فحال اللغة العربية توشك أن تكون شبيهة بحال اللغة اللاتينية.
فالشعوب العربية في مختلف الأمصار تتكلم العربية، لكن كل شعب منهم تختلف لغته عن لغة الآخرين اختلافا كثيرا أو قليلا بنسبة البعد بينهم، والاختلاف في أحوالهم. ولولا القرآن الكريم لاستقلت لغة كل شعب حتى لم يعد شعب يفهمها، كما حدث مع فروع اللغة اللاتينية التي تفرعت إلى فرنسية وإسبانية وبرتغالية وإيطالية.

الأكثر قراءة