هل غيرت الأزمة المالية استراتيجيتنا الأمنية الغذائية؟!

المُتتبع لمجريات الأمور على الساحتين الإقليمية والدولية، يلاحظ تفاقم مشكلة الغذاء بشكل واضح وجلي بعد ما كان يُشار إليها من بعيد على أنها ظاهرة ترتبط بمجموعة من البلدان الفقيرة, خاصةً الإفريقية منها، لكن مجريات الأمور في وقتنا الحاضر تقول غير ذلك، الجميع سيعُانيها وبدرجات متفاوتة. قبيل الأزمة المالية بدأت ملامح سياسة محلية زراعية في الظهور بعد تفاقم مشكلة أسعار الغذاء وزيادة إيرادات الدولة المالية، هدفها توفير المحاصيل الضرورية داخليا أو الاستعانة بالزراعة خارجيا، فهل نستطيع مواصلة طموحاتنا أم أن هذه الأزمة ستُديرنا كغيرها؟
لسنا بصدد تحديد أسباب شُح وارتفاع أسعار الأغذية والحبوب، فهي معلومة للجميع بسبب زيادة الطلب العالمي وتحسن مستوى المعيشة في كثير من الأقطار المنتجة لهذه الحبوب، إضافة إلى استخدامها في إنتاج الوقود الحيوي، وكذلك انخفاض الإنتاج العالمي من هذه المحاصيل المهمة نتيجة التقلبات المُناخية الحادة من تصحر وقلة في الأمطار. السياسة الزراعية للمملكة في السابق انصبت على تشجيع إنتاج المحاصيل الزراعية, خاصةً الاستراتيجية منها كالقمح والذرة والدُخن والشعير، لكن النقد الموجه آنذاك لهذه السياسة بأنها تهدف إلى إعادة توزيع الدخول وليست سياسة زراعية رشيدة تأخذ في الحسبان الجدوى الاقتصادية لإنتاج مثل هذه المحاصيل، كونها تُنتج خارجيا بأسعار تقل عن مثيلاتها في المملكة وبشكل كبير، ناهيك عن تكلفة الماء وهي سلعة لا يتوافر منها القدر الكافي للشرب فما بالك بالزراعة، فهي والحال هذه تتصف بالندرة.
بدأت الدولة بناء على التوصيات من أهل الاختصاص في خفض الدعم المادي بالتدريج للقمح إلى أن تلاشى تقريبا. السؤال المُلح: هل كانت سياسة إلغاء الدعم الزراعي, خاصة القمح صائبة؟ وهل إلغاء الدعم المادي للقمح لم يأخذ في حسبانه التقلبات السياسية والاقتصادية سواءً كانت على المستوى الإقليمي أو الدولي؟
الإجابة تنحصر وبشكل مبسط في الرجوع إلى بدايات الدعم الزراعي في السبعينيات الميلادية، فقد كان الشعار وقت ذاك الاكتفاء الذاتي، لكن بعد سيل جارف من الانتقادات الحادة لهذه السياسة بدأت الجهات المعنية التوصية بتقليل هذا الدعم تدريجياً إلى أن انتهى الأمر إلى تحوُل مساحات كانت في السابق بساتين مثمرة وحدائق غناء إلى زيادة في رقعة المساحة الصحراوية. الأحوال اليوم تغيرت وبشكل جذري، الغذاء أصبحت أسعاره عالية والمدخلات الغذائية أصبحت كذلك أو أكثر فهل يستحق الوطن منا التضحية بجزء من دخلنا الوطني للمحافظة على أمنه واستقراره وسلامة وتماسك بنائه؟ أم أن الأمر لا بد أن يدخل فيه الجدوى الاقتصادية؟ لا يشك عاقل في أن سلامة البناء الأمني من الأولويات وإلا لما تسابقت الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية لدعم الإنتاج الزراعي والمحافظة عليه, لا بل الدفاع المُستميت عنه في آخر جولة من جولات التجارة الحرة في سويسرا. الأمر أكبر من ذلك! الأمر يتعلق بالأمن القومي لهذه الدول، الأمن الوطني عسكرياً وفكريا وغذائياً واحد لا تنفك عُراه، لا بل قد يكون الأمن الغذائي هو الأهم. فكم من الأموال الطائلة التي تنفقها الدول على أمنها الوطني سواء كان داخلياً أو خارجياً سنويا من أجل الحفاظ على استقرارها الأمني بمختلف تصنيفاته!
بالقياس على هذا الإنفاق الأمني ومقداره الذي ربما لا تعرف الدولة متى تحتاج إليه، فقد يحتاج إليه الوطن بشكل واسع وكبير وقد لا تتأتى هذه الحاجة أبداً، ففي الأدبيات الاقتصادية، الأمن والدفاع من السلع العامة التي تقوم بتوفيرهما الدولة لكل المواطنين دون استثناء، لهذا لا بد لنا أن نجعل توفير المحاصيل الرئيسة مثل القمح على قائمة أولوياتنا كما الأمن فقد تتغير الظروف المحيطة بنا ولا تكون لدينا الكفاية ما يضطرنا إلى الحصول عليها من الأسواق الخارجية, التي من الممكن أن نقع فيها تحت رحمة من يبيعها, ولهذا من الضروري لنا ولأمننا أن ننتج ما يكفينا من هذه السلعة الاستراتيجية وبما يكفي لاستهلاك مواطنينا لفترة تراوح بين ستة أشهر وسنة.
إذاً، مراجعة استراتيجيتنا الغذائية مطلب ضروري وملح، حتى لا نقع تحت هيمنة الكبار ونخضع للإملاءات الخارجية، لا بد لنا من توفير محاصيلنا الضرورية والأساسية وإن كانت تكلفتها الاقتصادية والاجتماعية عالية. المطلوب ليس كالسابق، التوسع في الإنتاج الزراعي وكأننا بلد يتمتع بهذه الميزة, إنما الإنتاج داخل الوطن وبما يكفينا. التوجه للاستزراع ( إن جاز لنا التعبير) خارج الحدود يعد مثاليا بحيث يتم توفير هذه المحاصيل للأسواق المحلية بأسعار معقولة وبيع الفائض منها في الأسواق الدولية, خاصةُ إذا توافر المناخ السياسي المناسب في هذه المناطق، لذلك لا بد من الحرص الشديد ودراسة الظروف المحيطة دراسة وافية وكافية حتى لا تذهب استثماراتنا في مهب الريح, ونكون كمن عاد بخفي حُنين. ولعل الأزمة الأخيرة بين الحكومة السودانية, وهي إحدى الوجهات المقصودة للاستزراع, والحكومات الغربية خير برهان على هذا الواقع. التوجهات الحكومية الأخيرة بإنشاء شركة حكومية أهلية مساهمة للاستزراع في الخارج تعتريه بعض الشوائب، الأجدر دعم شركات القطاع الخاص السعودي للقيام بهذه المهمة لتميزها بالسرعة والدقة، ويتم تشجيعها عن طريق الشراء منها بأسعار تفضيلية وتُعطيها الدولة بعض الضمانات اللازمة لاستمرار عملها. البنك الزراعي السعودي هو خير من يشرف على من يقوم بهذه المهمة، كونه يمتلك رصيدا من الخبرات المحلية وقدرة على التعامل مع مثل هذه الحالات شريطة دعمه بالكوادر المدربة وتخصيص قسم خاص بهذه المهمة الدولية الحساسة. هذا مفيد من ناحية توفير مخزون استراتيجي للمملكة وبيع الفائض في الأسواق الخارجية ما يزيد المعروض من هذه المحاصيل الاستراتيجية في السوق الدولية, وبالتالي التأثير السلبي في أسعارها.
التركيز على الاهتمام ودعم مراكز البحوث الزراعية سواء كانت تابعة للجامعات أو المعاهد الزراعية من أجل البحث عن حلول جذرية لمشكلة المياه واستنباط سلالات زراعية تستهلك القليل من الماء وتقاوم الجفاف، وتقديم الدعم المالي المُجزي لها ما يمكنها من القيام بدورها على أكمل وجه. فوق هذا وذاك، القيام بالمسوحات الكافية سواء عن طريق مراكز البحوث الوطنية في وزارة الزراعة أو الجامعات وبالتعاون مع المراكز البحثية المتقدمة للإجابة عن السؤال الكبير والمُحير: كم احتياطي المملكة من المياه وأين تتركز؟ الإجابة عن هذا السؤال ستحل كثيرا من الإشكالات حول مشكلة المياه في المملكة وجدوى استصلاح الأراضي, ومن ثم تحديد إنتاجنا من المحاصيل ومناطق تمركزها.
خلاصة الموضوع: أولوياتنا في تحديد إمكاناتنا المائية وتوزيعها ومن ثم تحديد أولويات المحاصيل الزراعية التي توفر رغيف الخبز للمواطنين, حتى إن كانت غير مجدية في الأجل القصير, من الأهمية بمكان، ولعل رياح الأزمة المالية العالمية قد لا تكون خلطت أوراقنا وبعثرت أولوياتنا .. هذا هو أمل الجميع!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي