الأموال الساخنة تفاقم أزمة الاقتصاد العالمي

الأموال الساخنة Hot Money تعبير يطلق على الأموال التي تتحرك بسرعة شديدة من استثمار إلى آخر على مستوى العالم مستبقة تغيرات أسعار الصرف أو مقتنصة فرصا استثمارية ذات عائد أعلى في المدى القصير. وفي عام 1998 تسبب انسحاب الأموال الساخنة من أسواق دول جنوب شرق آسيا في انهيار عملاتها ودخولها في أزمة مالية واقتصادية حادة واستغرقت تلك البلدان سنوات عديدة لتتعافى وتستقر اقتصاداتها من جديد، إلا أن الملاحظ هو عدم إدراك الدور الكبير الذي لعبته الأموال الساخنة في مفاقمة أزمة المال الحالية وتوسيع دائرة الدول المتضررة منها بشكل كبير.
فالهلع والخوف الذي سيطر على المستثمرين جعلهم يبحثون عن ملاذ آمن لاستثماراتهم كسندات الخزانة الأمريكية مثلا، الأمر الذي تسبب في انسحاب سريع متواصل من الأسواق الناشئة كروسيا والهند وكوريا الجنوبية ودبي وغيرها، والذي تسبب في تراجع حاد في أسواقها المالية، وضغط كبير على أسعار صرف عملاتها أمام الدولار في ظل الطلب المتزايد عليه من قبل هؤلاء المستثمرين اللائذين بحمى سندات الخزانة الأمريكية. وفي ظل الضغط الشديد على عملات الدول الناشئة وشح السيولة الذي يعانيه نظامها البنكي، نتيجة هروب الاستثمارات الأجنبية عالية السيولة، اضطرت السلطات النقدية في تلك البلدان إلى اللجوء إلى فوائضها المالية لتأمين نظامها البنكي وحماية أسعار صرف عملاتها، ما تسبب في استنزاف جزء كبير من احتياطياتها الأجنبية بدلاً من أن تكون موارد متاحة يمكن استخدامها مستقبلا لتمويل عجز ميزانياتها وموازين مدفوعاتها ما سيعرض اقتصاداتها لخطر كبير.
في المقابل تسبب هروب المستثمرين إلى سندات الخزانة الأمريكية في زيادة كبيرة في الطلب على الدولار, وبالتالي ارتفاع كبير في سعر صرفه أمام معظم العملات الرئيسة. وإذا أخذنا في الحسبان أن معظم التحسن الذي طرأ على الاقتصاد الأمريكي في السنوات الأخيرة كان نتيجة انخفاض سعر صرف الدولار, وبالتالي نمو الصادرات الأمريكية، فإن هذا الارتفاع في سعر صرف الدولار يعني تراجعاً في الصادرات الأمريكية في وقت يعاني فيه الاقتصاد الأمريكي ركودا حادا وتراجعا في الطلب المحلي. أيضاً فإن هذا الارتفاع في سعر صرف الدولار يزيد حدة تراجعات أسعار السلع في الولايات المتحدة ويغذي توقعات المستهلكين بتراجع المستوى العام للأسعار ما يتسبب في تأجيلهم قراراتهم الاستهلاكية طمعاً في تراجع إضافي في الأسعار, والذي بدوره يتسبب في زيادة فائض السلع المنتجة ما يضغط على أسعارها للتراجع فعلا، ما يدخل الاقتصاد في دورة تراجع في الأسعار Deflation, وهي الحالة المعاكسة لفترة ارتفاع الأسعار أو التضخم Inflation، وهي حالة لا تقل سوءا عن حالة التضخم، لما يترتب عليها من تعميق لمشكلة الركود الاقتصادي وزيادة في حدة تراجعات أسعار العقارات ما يفاقم من مشكلة الرهن العقاري والأزمة المالية.
وتراجع الأسعار يحدث عادة بسبب أن الإنتاج يفوق الطلب على السلع المنتجة والذي يمكن معالجته من خلال تخفيض أسعار الفائدة، لكن عندما يكون تراجع الأسعار ناتجا عن توقعات المستهلكين بانخفاض أسعار السلع خلال المرحلة المقبلة فإن تخفيض أسعار الفائدة لا يجدي نفعاً. والحل الأنسب هو تراجع كبير في سعر صرف الدولار يسهم في تعزيز الصادرات الأمريكية, كما يتسبب في تنامي الضغوط التضخمية محليا ما ينهي توقعات المستهلكين بتراجع الأسعار ويدفعهم بالتالي إلى معاودة الاستهلاك من جديد، ما يقلل من فرص تزايد حدة الركود الاقتصادي وسحب المنازل من المقترضين بسبب العجز عن السداد. إلا أن توجه الأموال الساخنة إلى حمى سندات الخزانة الأمريكية دفع الدولار للارتفاع بدلاً من الانخفاض، كما كان متوقعا في ظل هذه الأزمة، ما أسهم في تعميق مشكلات الاقتصاد الأمريكي وزاد من صعوبة حلها.
والواقع أن من أبرز سلبيات الأموال الساخنة هو أنها تدخل عندما يكون الاقتصاد في حالة انتعاش وليست هناك حاجة حقيقية لتلك الأموال وتجتذبها فقط فرص الربح السريع، إلا أنها تخرج في أحلك وأحرج الظروف في وقت يكون الاقتصاد في أمس الحاجة إلى بقائها حيث يتسبب خروجها في ضغط كبير على النظام المالي وهدر للفوائض المالية دفعاً عن العملة المحلية. وعلينا أن ندرك أن من أهم أسباب تأثرنا المحدود نسبيا بهذه الأزمة هو انغلاق اقتصادنا أمام الأموال الساخنة، على خلاف دول خليجية أخرى سيكون تأثرها أكبر بكثير بسبب خروج الاستثمارات الأجنبية من أسواقها المالية وأسواق عقاراتها. ما يعني ضرورة إعادة النظر في خطوات اتخذت حتى الآن تستهدف فتح اقتصادنا أمام الاستثمار الأجنبي بحيث نضمن أن تكون هذه الاستثمارات مقصورة فقط على الاستثمار في مشاريع الاقتصاد الحقيقي، لا استثمارات مالية قصيرة المدى تهدف إلى الربح السريع وتهرب عند بوادر ظهور أي أزمة، فهذا النوع من الاستثمارات يجب أن تغلق كل الأبواب في وجهه تماما إن كان لنا أن نحمي اقتصادنا من تأثيراته الكارثية مستقبلا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي