إمام عبد الفتاح إمام .. حياة ملؤها الكتب

إمام عبد الفتاح إمام .. حياة ملؤها الكتب
إمام عبد الفتاح إمام .. حياة ملؤها الكتب

تتأكد فرضية تهديد وسائل التواصل الاجتماعي للذاكرة الجماعية يوما بعد آخر، فالنسيان والتبخيس والإنكار والتجاهل، أضحت من صميم القيم التي تعمل هذه الوسائل على نشرها وتكريسها في صفوف مستعمليها. فاللهث المستمر وراء استعراض الجديد مستمر بلا توقف؛ دون أن يرافقه تأمل في المستعرض أو تمعن في المضامين قصد الفهم والاستيعاب.
لا يستطيع أي متابع لكيفية تعاطي جمهور الفضاء الافتراضي مع واقعة وفاة إمام الترجمة في العالم العربي إمام عبد الفتاح إمام بحر الأسبوع الماضي، سوى أن يثبت ما تمت الإشارة إليه. ففي الماضي، كان "الهيجلي الأخير" علما يتداول اسمه على كل الألسن، قبل أن يتحول فجأة إلى نكرة مجهولة بالكاد تعرفه أقلية وسط الحشود.
كان الراحل مترجما لا يشق له غبار، خاصة أن اختار الاشتغال على الفيلسوف هيجل أحد أصعب وأعقد الفلاسفة. لدرجة تحول معها إلى مرجع أساسي على المستوى العربي، لكل المشتغلين بفلسفة هيجل. فقد ترجم له وكتب حوله دراسات أشبه ما تكون بموسوعة تلم بأطراف فكره على تشعبها، وهو جهد بدأه في الماجستير (1968) برسالة "المنهج الجدلي عند هيجل"، ثم أنهاه في الدكتوراه بموضوع "تطور الجدل بعد هيجل".
يعد إمام عبد الفتاح إمام آخر الأسماء التي بقيت من مدرسة الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي في مجال الترجمة، الوفي رغم باعه الطويل في هذه الحرفة لنصيحته أستاذه المفكر زكي نجيب محمود "ليكن المعجم أقرب شيء إلى يدك، ولا تقل لنفسك أنا أعرف هذا المصطلح، وقد سبقت لي ترجمته".
اشترك هؤلاء الرواد على غرار بدوي؛ أستاذهم الوجودي الأكبر، رفضهم الأضواء والانزواء بعيدا عن المناصب الرسمية، وعدم الانخراط في التنظيميات السياسية والحزبية، والانغماس في العلم والفكر، ما جعلهم نساكا في رحاب التدريس والترجمة والتأليف. لكن ذلك لم يمنحهم التفاتة رسمية، فلا أحد منهم حظي بتقدير رسمي من جهة الدولة، وإن كان التقدير والاحترام الكبيرين من جانب العوام والنخبة في العالم العربي قائما لهم.
لا تعدو مقولة "كل مترجم هو خائن" في نظر إمام الترجمة سوى صدمة أو بتعبيره قولا محبطا، غير قابل للتعميم والإطلاق. فلا يمكن أبدا الجزم بأن المترجم لن يستطيع أن يكون موضوعيا ودقيقا؛ بحيث ينقل إلى لغته روح النص الأصلي الذي يقوم بترجمته، "ما دام لم يحرف في الترجمة أو يخطئ في النقل".
غيب الموت عنها إذن صاحب أول رسالة دكتوراه عربية عن منهج هيجل الفلسفي، صار علامة بارزة في الفكر الفلسفي العربي. قام بترجمة عديد من الكتب في تاريخ الفلسفة الغربية، سيبقى تأثيرها في طلاب الفلسفة في العالم العربي إلى الأبد باعتباره أحد الرواد الكبار.
يقدم الراحل على أنه عقلاني، لأنه اشتغل بفلسفة هيجل أولا، وثانيا لأنه يعلي من شأن العقل، ويحرض على أعماله. كما أنه يؤكد في معظم مؤلفاته واختياراته المترجمة، أن الفلسفة ليست مجرد تجميع لآراء أو رواية لأفكار معزولة، ما قد يجعلها "تصبح رواية عاطلة أو بحثا متحذلقا"، حيث يعدها البعض مجرد حصر لآراء مختلفة. بمعنى آخر، نقول إنها تبحث في نشاط العقل كما يتجلى ذلك في تاريخ الفكر، بذلك يكون المنهج الفلسفي مرادفا للمنهج العقلي، أو هو "المنهج الذي يعبر عن نسيج العقل نفسه".
ينسى أصحاب هذا القول أن إمام ترجم أيضا فلسفة كيركجارد التي يراها الراحل ثورة على الفلسفة الهيجلية التي ألقت ضوء جديدا على النزعة العقلية، وجعلتها تستغرق جميع الموضوعات. فقد كان كيركجارد يرفع شعار: "ابتعدوا عن المذهب، ابتعدوا عن الفكر النظري، ابتعدوا قبل كل شيء عن هيجل".
يرفض شيخ المترجمين أن تنقلب الفلسفة من علم إلى سراب خادع، مؤكدا أنه تعلم من هيجل مثلما تعلم من كيركجارد وماركس وأفلاطون. فكل مذهب من مذاهب الفلسفة يكشف عن جانب من جوانب الحقيقة: "إذا قرأت الماركسية اقتنعت بها، وأصبح الاقتصاد هو الذي يقوم. عندما أقرأ الوجودية التي هي صرخة لإنقاذ الفرد أشعر إنها على حق في كل ما قالته، في حين أنني لا أرتاب في صحة البرجماتية التي تحيل الأفكار إلى عمل نافع وسلوك مفيد". بعيدا عن السجال الفلسفي خلف الراحل للخزانة العربية ما يفوق 100 مؤلف ما بين التأليف والترجمة، بما فيها بعض الموسوعات من أشهرها موسوعة "المرأة في الفلسفة"؛ بأجزائها العشرة، تسلط الضوء فيها على آراء عدة فلاسفة حول المرأة، وسيخصص أحد الأجزاء إلى "النساء الفيلسوفات"، فالمرأة في الفلسفة كما يفهما إمام عبد الفتاح إمام هي في حد ذاتها نص فلسفي منفتح على القراءة والتأويل.
يعتقد إمام عبد الفتاح إمام أن المرأة "حاضرة في تاريخ الفلسفة، وإن جاز لنا أن نقول إن المرأة هي الفلسفة عينها. إذن فليس تاريخ الفلسفة إلا تاريخا للمرأة. ومن هذه المقاربات الفهمية، نجد أن صعوبة تعريف الفلسفة هي نفسها صعوبة تعريف المرأة وفهمها، فكلتاهما متقلبتان، مراوغتان. كثيرا ما تدفعان العقل الذكوري في لحظة من لحظات يأسه، الابتعاد عنهما، ونسيانهما للأبد، إلا أنه لا يستطيع، فيهم بالعودة إليهما".
قيل حول الرجل الشيء الكثير، قبل أن يجمع الكل على تجاهله فجأة، فمنتجه غير صالح للعرض في الفضاء الافتراضي. وقد بلغ الشك في البعض حينها حد التشكيك في نسبة كافة المنجزات للراحل؛ أكثر من 100 كتاب. لكنه تولى الرد على هؤلاء؛ ذات مقابلة، مؤكدا أنه بعد أن بلغ من العمر عتيا، لم تكن له أي هواية أو عادة تشغله عن الورقة والقلم، ولم يجلس يوما على مقهى، "أستغرب ممن يضيعون الساعات فيه. ليس لدي في الدنيا سوى فوضى مكتبي. أنام مبكرا وأصحو في الرابعة أو الخامسة، وبعد إفطاري أنكب على مكتبي. ولا أشاهد التلفاز إلا لماما. حياتي كلها هي الكتب".

الأكثر قراءة