حتمية تطوير سياسات التعليم الجامعي
يدخل التعليم الجامعي في كل دول العالم مرحلة دقيقة من تاريخه المديد، والسبب أن الطلب على التعليم الجامعي يتزايد بشكل كبير؛ ما يؤكد أن المؤسسات التعليمية الجامعية لن تستطيع استيعاب كل الأعداد المتزايدة التي تطلب التعليم الجامعي.
هذا الكلام ينطبق على التعليم الجامعي في دول العالم الثالث، وكذلك في دول العالم الأول.
ولذلك يتعين على واضعي السياسات والبرامج التعليمية ـــ في كل دول العالم ـــ أن يعالجوا معضلة العجز في مسألة المقاعد المتاحة للتعليم الجامعي.
ليس هذا فحسب، بل العالم يواجه مشكلة العجز في توفير الوظائف المناسبة لخريجي الجامعات من ذكور وإناث. والمؤسف أن خريجي الجامعات يتزايدون عاما بعد عام في كل دول العالم، وتتسع الفجوة بين الطلب على الوظيفة والوظائف المتاحة.
ولكن مع هذا فإن بعض الدول المتقدمة تستخدم التعليم الجامعي وعاء من أوعية الاستثمار، وتسعى إلى جذب الطلاب للدراسة الجامعية في جامعاتها العريقة مقابل رسوم تعليمية عالية نسبيا ومصاريف يومية وشهرية، يصرفها الطلاب إبان السنوات التي يقضونها في التحصيل العلمي.
ونذكر على سبيل المثال أن الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وكندا، وانضمت إليهم أخيرا أستراليا ترى أن التعليم الجامعي مصدر من مصادر الدخل القومي، وتسعى هذه الدول إلى تطوير وتحسين الجامعات؛ حتى تستقطب مزيدا من الطلاب الأجانب المبتعثين للدراسة في جامعاتها المتقدمة. ولذلك حينما تأزمت العلاقات السياسية مع الولايات المتحدة إبان إدارة الرئيس أوباما أصدرت الولايات المتحدة قرارات أمنية معيقة لتأشيرات الطلاب السعوديين، وأسفرت هذه القرارات عن تقلص أعداد الطلبة السعوديين إلى الولايات المتحدة، وإزاء ذلك اشتكت الجامعات الأمريكية انخفاضا هائلا في إيراداتها؛ ما أقعدها عن تنفيذ برامجها التعليمية المتقدمة. وفى المقابل اتخذت الجامعات الأسترالية يومذاك مجموعة من الإجراءات المقننة التي تحفز الطلاب السعوديين لتغيير وجهتهم والالتحاق بالجامعات الأسترالية، كما أن الجامعات البريطانية لم تنتظر طويلا فأصدرت تعليمات جديدة لتسهيل التحاق الطلاب السعوديين بالجامعات البريطانية.
إن الدول المتقدمة لا تنظر إلى التعليم الجامعي من باب الاستثمار الاقتصادي فحسب، وإنما تنظر إليه لتحقيق مغانم سياسية وثقافية أيضا، خاصة مع الدول التي لها مصالح استراتيجية مشتركة.
ويلاحظ الزائر للمملكة المتحدة أن الجامعات البريطانية تتسابق على بناء مدن جامعية يراعى في تنفيذها كل شروط البيئة النظيفة، ولقد زرت عدة جامعات ومنها جامعة نوتنجهام المرموقة، ولاحظت أن جامعة نوتنجهام شيدت "كامبس" جديدا طبقت في تنفيذه كل شروط البيئة النظيفة سواء في مواد البناء، أو في تصميم الفراغات حتى ملاحق التشييدات، كما أن الجامعة استخدمت الطاقة الشمسية على نطاق واسع في الإضاءة، ولم تستخدم البترول ومشتقاته، لأنه يلحق أضرارا بالبيئة، ويبدو أن الجامعة، وهي بصدد تنفيذ مشاريعها الجديدة تريد أن تثبت بالأدلة والبراهين الواقعية أنها تقرن النظرية بالتطبيق، وأن ما يدرسه الطلاب من نظريات علمية تطبقه الجامعة على أرض الواقع في مشاريعها التطويرية.
وتقدر الحكومة البريطانية أن عدد الطلاب الأجانب الذين يدرسون في بريطانيا بـ 600 ألف طالب وطالبة، وتقدر قيمة الإيرادات السنوية من التعليم للأجانب بنحو 20 مليار جنيه استرليني، وتسعى الحكومة البريطانية إلى تحقيق زيادة ملحوظة في عدد الطلاب الأجانب الذين يدرسون في جامعاتها في السنوات القادمة، وتنظر الحكومة البريطانية إلى الطلاب الأجانب على أنهم مصدر قيمة دائمة، فهم يأخذون معهم صداقات وولاءات إلى أوطانهم يستفاد منها في المستقبل على شكل روابط تجارية وثقافية ودبلوماسية، بمعنى أن استقطاب طلاب أكثر اليوم يعني علاقات أقوى في المستقبل، ولذلك فإن بريطانيا تسعى دائما إلى كسب الجيل التالي من صناع الرأي في دول العالم الثالث. ومن ناحيتها فإن أستراليا تحرص على كسب حصة في سوق التعليم الدولي، وأعلنت الحكومة الأسترالية تحريرا شاملا لقواعد التأشيرات الخاصة بالطلاب الأجانب.
ونحن في السعودية لدينا أكثر من 30 جامعة وعشرات الكليات الفنية التي تعنى بالتعليم الفني، وأزعم أن الطلب على التعليم الجامعي بكل مستوياته وتخصصاته عال جدا في المنطقة العربية.
وإذا كان الطلب على التعليم الجامعي عاليا على مستوى الدول العربية، فإنه على مستوى دول الخليج أكثر من ذلك بكثير، وهذه الدول تضع السعودية خيارا أول، ولذلك أمام الجامعات السعودية فرص لكي تجذب الطلاب الخليجيين، ونحن في أمس الحاجة إلى بناء الولاءات في منطقة الخليج، لأن الطرحين الفارسي والعثماني اللذين يطرحان الآن على الصعيدين السياسي والثقافي في منطقة الخليج يجب أن يحفزانا إلى تصميم سياسات تستهدف بناء الولاءات مع الأجيال القادمة في دول الخليج عن طريق استقطاب الطلاب الخليجيين في الجامعات السعودية.
ولكن من المآخذ التي تؤخذ على جامعاتنا هي قضية المناهج، حتى نجذب الطلاب الأجانب إلى جامعاتنا؛ فإنه يجب ألا نحشر المناهج بدروس لا تتوافق مع حاجات الطلاب الأجانب، كما يجب ألا نمنع ــ دون مبرر علمي ــ تدريس علوم المنطق والفلسفة وغيرها من العلوم بدعاوى وتفسيرات غير علمية، وهو تدخل غريب يمنع تدريس علوم تدرس في كل جامعات العالم، يجب أن نترك المقررات العلمية لحاجات الإنسان واحتياجاته العلمية، ولا نخلطها بمبررات ذاتية ليس لها سند علمي مقبول، لأن تقرير المواد العلمية لا يرتهن إلى مبررات غير علمية، وإنما يرتهن إلى الاحتياج العلمي المتخصص.
وما نقصده هنا هو ضرورة إخضاع التعليم الجامعي في السعودية لسياسات استثمارية وعلمية وسياسية تخدم الدور السعودي المتزايد إقليميا ودوليا.