الهيئات الشرعية بين حقيقة العمل المصرفي والعمل التأميني
كان لي زميل يحدثني عن صديق له أفنى معظم سنوات دراسته في البحث عن حقيقة العمل المصرفي الإسلامي حتى انتهى به الأمر إلى الحصول على شهادة دكتوراه في هذا المجال من جامعة هارفارد الأمريكية.
وقال لي إن صديقه هذا انتهى إلى نتيجة مرة وهي أنه لا توجد مصرفية إسلامية حقيقية، وإن ما يحصل على أرض الواقع ما هو إلا عمليات تجميل أو مسميات شكلية دون أن تغيير من جوهر العمل المصرفي القائم على الإقراض بفائدة، فغاية المقترض النهائية هي الحصول على المال وغاية المصرف هي الإقراض بفائدة، وما الهيئات الشرعية في المصارف إلا لتمرير هذه الصفقة وفق قنوات ومسارات يرون أنها مسارات شرعية، فالأمر أشبه ما يكون برحلة على متن طائرة كتب على صف من المقاعد شرعي وكتب على الصف الآخر غير شرعي رغم أن التذكرة واحدة والطائرة واحدة ومحطة الوصول واحدة، وقد يكون الفرق هو إعطاء هذه المقاعد لوناً شرعياً وتراثاً إسلامياً وإلزام من يقوم بالخدمة من المضيفين بأن يرتدي زيا إسلامياً ومن ثم زيادة ثمن التذكرة قليلاً لتغطي تكاليف اجتماعات الهيئات الشرعية ومكافآت أعضائها.
مضى زمن غير بعيد وإذا أنا ألتقي صدفة هذا الصديق لذلك الزميل وكنت عندها توّاقاً لفتح الحديث معه حول رأيه كمتخصص في العمل المصرفي الإسلامي، فبادرته بسؤال مباشر عن أسباب اعتقاده بعدم وجود عمل مصرفي إسلامي حقيقي، فذكر لي عدة أسباب استوقفني كثير منها ولكن المجال لا يتسع لسردها وأكتفي بسبب واحد مما ذكره وهو أن العميل حينما يأتي إلى المصرف للاقتراض فإن المصرف يبرم معه صفقة القرض على أساس أنه شراء وبيع لحديد أو معدن ثم يبيعه المصرف كوكيل للمشتري في الأسواق المحلية أو العالمية.
فإذا كانت فرضية البيع والشراء صحيحة فما الموقف الشرعي من قيام العميل بالسداد المبكر للقرض؟! فحينما يتقدم العميل للمصرف فيما بعد ويطلب سداد بقية الدفعات المتبقية من القرض مرة واحدة وقبل حلول آجالها، فإن المصرف يقوم بخصم جزء من الفائدة مقابل هذا السداد المبكر. لذلك فإذا كان الأمر يتعلق ببيع وشراء معدن أو حديد فإنه من المفترض أن المصرف قد قبض أرباحه سلفاً ولا يفترض أن يتنازل عن جزء من الربح مقابل السداد المبكر. حديث هذا الصديق المتخصص ترك انطباعاً لدي بأن العمل المصرفي الإسلامي مازال بحاجة لتأمل أكثر ولدراسة أعمق.
ومن وجهة نظر شخصية فقد تكون إشكالات العمل المصرفي الإسلامي ناتجة عن أنه لم يتم تأسيس العمل الإسلامي من البداية وإنما المصرفية الإسلامية نشأت لتعالج وضعاً قائما فجاءت وكأنها عمليات جراحية سطحية أو عمليات تجميل للشكل والمظهر دون أن تمس الجوهر.
وبالنسبة للتأمين فقد كثر الحديث في هذه الآونة عما هو تأمين إسلامي وما هو غير إسلامي وتشكلت بعض الهيئات الشرعية في بعض شركات التأمين فارتبط التأمين التعاوني أو التكافلي بصفة الشرعية بينما ارتبط التأمين التجاري بالصفة غير الشرعية، وهذا سيؤدي حتماً إلى تطبيق المنهج الشرعي في العمل المصرفي على العمل التأميني وسيبدو لنا الأمر في النهاية وكأن كل شيء له وجهان شرعي وغير شرعي، بينما أرى أن التأمين ليس له سوى وجه واحد وأصل واحد وهذا الأصل متوافق مع القواعد الشرعية العامة ومع روح الشريعة وغاياتها وكل ما قيل من أسباب تخص عدم شرعية التأمين كان منطلقاته وأسسه غير سليمة، ولذلك فما أخشاه هو الحكم على التأمين بعدم الشرعية ومن ثم قيام تلك الهيئات بفرض تطبيقات ومبررات قد توحي بأن هذه التطبيقات أو بعضا من أنواعه هو ما ينبغي أن يقال عنه إنه شرعي فقط وأنه لا شرعي إلا ما قيل عنه شرعي فنعود إلى ركوب طائرتنا من جديد، زد على ذلك أن العمل المصرفي أساسه غير شرعي ومنطلقاته كذلك غير شرعية وهنا يكمن الفرق.
أكاديمي وباحث في التأمين
[email protected]