تذبذب الأسعار يخلط أوراق المستثمرين في مشاريع الصناعة النفطية
من أهم التحديات التي يواجهها المستثمرون في صناعة النفط مدى القدرة على التنبؤ بكمية الطلب العالمي على النفط في المستقبل القريب والمتوسط والبعيد. لا شك أن المعرفة الدقيقة لكميات النفط التي سوف يطلبها العالم من شأنها أن تساعد وأن ترشد المستثمرين على أفضل طرق الاستثمار في الصناعات النفطية. لكن تكمن المعضلة في أن الطلب العالمي على النفط مرهون بنمو الاقتصاد العالمي وبدرجات ومعدل هذا النمو أيضا، حيث يعد النفط وقود محركات الاقتصادات العالمية دون وجود أي منافس في الوقت الراهن وفى المستقبل القريب. كما أن الاستثمار في إيجاد قدرة احتياطية نفطية تكون جاهزة عند الحاجة لها يحتاج أيضا إلى معرفة مدى الزيادة في الطلب والاستهلاك العالمي للنفط. إذا لا بد من وجود دراسات تساعد على إرشاد المستثمرين وعلى تزويدهم بالمعلومات المناسبة.
تكمن المشكلة في أن العوامل التي تتحكم في كميات الطلب العالمي على النفط كثيرة ويصعب تلخيصها هنا، إلا أن المستجدات التشريعية الحديثة تشكل عائقاً يصعب اختراقه. فعلى سبيل المثال توقعت منظمة (أوبك) قبل عدة سنوات أن تحتاج دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى 36 مليون برميل يومياً من النفط عام 2020م، لكن ومع ظهور التشريعات الحديثة بخصوص خلط الوقود الحيوي بالوقود الأحفوري وتغيرها السريع والمستمر جعل مسألة دقة التوقعات عملية معقدة، إذ إن التشريعات الجديدة ستلزم دول الاتحاد الأوروبي بأن يكون الوقود محتوياً على 10 في المائة من الوقود الحيوي، وكذلك الأمريكيون ملتزمون بخلط كميات كبيرة من الإيثانول بوقود السيارات. بذلك تكون هذه التشريعات قد أدت إلى انخفاض طلب دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على النفط، إذ تشير مصادر (أوبك) الحديثة (2008م) إلى انخفاض توقعاتها لطلبات الأوروبيين والأمريكيين على النفط عام 2020م إلى 32 مليون برميل يومياً بدلاً من 36 مليون برميل، أي أن الطلب سيقلص بنحو أربعة ملايين برميل يومياً من التوقعات السابقة.
كل هذا يدل أن أكبر المستهلكين للنفط في العالم يعملون بجد من أجل تغيير سياستهم النفطية وطرق وكيفية وكميات استهلاكهم للنفط وعلى الدول المصدرة للنفط أن تكون مستعدة لأي طارئ أو تغيير في الاستهلاك العالمي للنفط.
وضمن هذا السياق، نجد أن توقعات الاستهلاك العالمي للنفط تتغير سنة بعد سنة ليؤكد حقيقة صعوبة تحري الدقة في توقعات تحديد الطلب العالمي على النفط، فعلى سبيل المثال كانت التقارير الصادرة عن منظمة (أوبك) قبل عدة سنوات تتوقع أن يصل الطلب العالمي على النفط عام 2020م إلى 120 مليون برميل يومياً، ولكن تقرير (أوبك) الصادر في هذه السنة (2008م) يتوقع انخفاض الطلب العالمي على النفط ليصل إلى نحو 100 مليون برميل عام 2020م، وبذلك تكون توقعاتهم الحديثة قد انخفضت عن توقعاتهم قبل بضعة سنوات بنحو 20 في المائة، وهذه نسبة تعد كبيرة ومن شأنها أن تحدث بعض الارتباك في أسواق النفط.
وفى الجهة الأخرى أعلنت دول (أوبك) أنها ستستثمر الكثير من الأموال لزيادة طاقتها الإنتاجية لضمان تدفق الإمدادات النفطية للعالم دون حدوث شح لكيلا يؤدي إلى إرباك العالم. وفى السياق نفسه أعلنت دول (أوبك) أنها بصدد زيادة إنتاجها خمسة ملايين برميل بحلول 2012م ومعظم مشاريع زيادة الإنتاج هذه هي في طور التنفيذ وبعضها قارب على الانتهاء وتمتلك السعودية حصة الأسد في مشاريع زيادة الإنتاج هذه.
لكن تبقى تذبذبات الأسواق وصعود ونزول الأسعار بشكل كبير أكبر عامل تحد للمستثمرين لكي يتمكنوا من الحصول على طاقة إنتاج تكفي الطلب العالمي المتغير دون زيادة تؤدي إلى فائض في الإمدادات، ومن ثم إلى ضرب الأسعار أو نقص في طاقة الإنتاج يؤدي إلى شح الإمدادات، ما يقود إلى حدوث اختناقات وكوارث اقتصادية تضر بالاستقرار العالمي.
ويعد الارتفاع الكبير في أسعار تكلفة مشاريع إنتاج النفط من أهم التحديات التي تواجه صناعة النفط بشكل عام، وقد ارتفعت تكلفة الكثير من المشاريع النفطية بأكثر من ضعف القيمة التقديرية الأولية ما أدى إلى تأخير بعضها أو حتى إلى إلغاء البعض الآخر.
وبالرجوع إلى بعض مؤشرات الأسعار العالمية، نجد أن تكلفة إنشاء مشاريع التنقيب والحفر واستخراج النفط قد تضاعفت ما بين عام 2000م وحتى الآن، وأن الأسعار قد زادت بأكثر من 75 في المائة في السنوات الثلاث الماضية فقط. ويمكن للمراقب أن يلحظ مدى الارتفاع الكبير الحاصل في أسعار المعادن التي تستخدم في صناعة الحفارات والأنابيب والخزانات المعدنية إضافة إلى النقص الكبير في الأيدي العاملة الماهرة، ما أدى إلى ارتفاع أسعارها في الفترة الأخيرة بشكل لافت للنظر. كل هذا أدى إلى تضاعف تكلفة إضافة برميل جديد للإنتاج عن تكلفته عام 2000م وذلك للارتفاع كما ذكرنا في تكلفة التنقيب والحفر والاستخراج والمعالجة.
ومن الأمثلة عن ارتفاع تكلفة إنتاج البرميل هو ارتفاع تكلفة إنتاج برميل النفط الأمريكي WTI إلى 65 دولارا (بحسب مصادر أوبك)، أن أي أن البرميل لا بد أن يباع بأعلى من 65 دولارا لكي يكون مربحاً.
وأخيرا، يجب ألا ننسى أن الغرب يحمل النفط مسؤولية التغيرات المناخية، وهذه مسألة في غاية الأهمية، وقد تشغل التحدي الأكبر للنفط في المستقبل ولا بد من تبني سياسات رشيدة تقتضي تخفيض كميات الانبعاثات جراء احتراق النفط.
إن دعم التقنيات الجديدة والرائدة التي من شأنها تقليص الانبعاثات الكربونية إلى الأجواء من شأنها تخفيف بعض اللوم الغربي على النفط ويكون ذلك بدعم الأبحاث العلمية التي تقوم على تطوير وقود أحفوري خفيف على البيئة، وكذلك تقوم بتطوير محركات وعمليات تجارية تقلل الانبعاثات وتقوم باصطياد مركبات الكربون وتخزينها بدلاً من دفعها إلى الأجواء. يجب علينا تطويع التقنية لتحويل النفط إلى صديق للبيئة والتقليل من مخاطره، لأن قدر العالم أن يتعايش مع النفط خاصة في ظل عدم وجود بديل أفضل منه لتوليد الطاقة الحرارية والحركية.