أفتونا مأجورين
كثُرت الفتاوى من حولنا، وأصبحنا نراها ونقرأها ونسمعها في كل حين، تعدد المفتون، وكثرت البرامج، تدير المذياع: فتسمع سائلا يسأل.. وتطالع التلفاز: فترى شيخا يجيب.
أصبح للناس مواسم للفتاوى، يزدحمون في تلك المواسم على أبواب المفتين، يقرعون أبوابهم: بماذا تقولون، وأفتونا مأجورين.
في هذا الزمن: لم يعد الناس يسمعون الفتوى من مصدر واحد، بل تعددت مصادرهم، واختلفت قنواتهم، وكثر مفتوهم، فولد هذا تضاربا في الفتاوى واختلاطا في الآراء.. فما الحل؟
الفتوى أهميتها في أنها منصب تولاه الله بنفسه: فقال: قل الله يفتيكم فيهن.. الفتوى أهميتها في أنها المنصب الذي تولاه سيد المرسلين، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، ومنزلة المفتي منزلة جليلة، لأنه يبين أحكام الله في أفعال المكلفين، فكأنه موقع عن رب العالمين.
الفتوى السليمة تجعل المستفتي على الجادة القويمة، وتبعده عن البدع الذميمة، فتصحح مساره لئلا يزل، وتحذره من البدع لئلا يضل. الفتوى القويمة توثق صلة الأمة بعلمائها، والأمة التي تبقى وفية لعلمائها فتسمع لقولهم وتطيع أمرهم وتأخذ بنصحهم هي أمة مؤهلة للفوز في الدنيا والنجاة في الآخرة.
المفتي: لا يتجرأ على الفتوى إلا حين وضوحها عنده، وتثبته فيها، وإلا تريث وتوقف، أما الإفتاء بغير علم فهو الضلال والإضلال. قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلوا".
والناقل للفتوى هو كالمفتي، فليحرص على فهمه للفتوى، ونسبتها إلى صاحبها، ودقة نقله لها.
سئل مالك عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف، وأما سمعت قول الله عز وجل: "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا"، فالعلم كله ثقيل.
سئل الشعبي عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تستحي من قولك لا أدري وأنت فقيه أهل العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستحي حين قالوا: "لا علم لنا إلا ما علمتنا".
قالوا: تعلم لا أدري فإنك إن قلت لا أدري علموك حتى تدري، وإن قلت: أدري سألوك حتى لا تدري.
قالوا: إن أحدهم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر.
فأين هذه المعاني عن أناس يفتون في تكفير أقوام وشعوب.. واستباحة دماء وأعراض.
مقولة: الدين للجميع: أصبحت حجة للبعض في القول على الله بلا علم، والخوض في مسائل كبار، ونقد العلماء والتقليل من شأنهم.
الدين للجميع تعني أن الجميع له الحق في تعلم هذا الدين، وفي التمسك به، وفي تبليغ ما علمته منه، أما تعليم الناس وإفتاؤهم فهو خاص بمن فقهوا الدين وصاروا به أهل الذكر.
نعم لا احتكار للدين، ولا كهنوت في الإسلام. ولكن هي دعوة إلى العلم الصحيح، وبعد الإتقان والاطمئنان إلى كفاءة المتعلم يكون له الحق في تعليم غيره، وتولى قيادة التوجيه.. والحياة تخصص. وعمل كل امرئ فيما يتقنه.
مسألة: تتبع الرخص: أمر الله باتباع الحق ونهى عن الهوى. قال تعالى: "فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب". والاختلاف سُنَّة كونية لا تُنْكر، واختلف العلماء لاختلاف عقولهم، ولتباين فهمهم للأدلة.
ولأن العلماء مختلفون، تخرج بعض الفتاوى الضعيفة، والآراء الشاذة، فيتلقفها بعض الضعفاء، فيعمل بها، لا لدليل رآه، ولا لبر اتبعه، بل وفق مبدأ "خل بينك وبين النار مطوع". أتت فتوى وافقت هواه فعمل بها.
قال الذهبي – رحمه الله: "مَن يتبع رخص المذاهب، وزلاّت المجتهدين فقد رَقَّ دينه".
وانظروا إلى هذا: بعض العلماء لا يشترط الولي في النكاح، وبعضهم لا يشترط الصداق، فلو جمع بين هذه الأقوال لتولد قول جديد، بجواز النكاح بلا ولي ولا شهود ولا صداق، وهذا لم يقل به أحد، فهو مخالف لإجماع الأمة.. وهذا مثال على تتبع الرخص.
زلات العلماء في كل مسألة.. فلو أخذ المرء بكل زلة ورخصة. لما بقي له من دينه شيء.
مقولة: هذا فقيه وهذا متشدد وهذا فاهم للواقع:
هذه الأحكام يطلقها مجموعة من الناس، فإن أتت فتوى وافقت آراءهم وأرضتهم، يكون المفتي فقيها، عالما بأحوال الناس، فاهما للواقع، وإن أتت بما يشق عليهم، كان المفتي متشددا.. غائبا عن الواقع.
والحق هنا أن الشريعة أتت بالتيسير، ولكنها أتت بالتكليف. وأوامر الشريعة في مجملها فيها تعب ومشقة، وفيها مخالفة لهوى النفس ورغباتها. والإسلام وسط بين التشدد والتعنت وبين اللين والتمييع "وكذلك جعلناكم أمة وسطا".
إن مذهب التعنت والحرج يبغض في الدين، ومذهب الترخص والتهوين سقط الدين.
والحق هو الوسط.. بلا تعنت وتشدد ولا تمييع وتهوين.. والفقيه هو الذي يتبع الدليل.
والحكم عليه منا.. هو بما نراه منه من موافقة للدليل واتباع له. وليس وفقا لهوانا وتصوراتنا.
سؤال: لماذا تراجع أثر الفتوى في النفوس؟
كان الناس فيما مضى يقيمون وزنا كبيرا لعلمائهم، وكان لآراء هؤلاء العلماء وزنا كبيرا في حياتهم. أما الآن فقد خف ذلك الأثر والوزن، وذلك لقلة مكانة العلماء في نفوس الناس، فمع تصاعد الهجوم على علمائنا، وكثرة السهام التي تسلط عليهم، والمحاولات الحثيثة لإسقاطهم، قلّت منزلة العلماء عند البعض، وضعفت مكانتهم.
ولو علمنا أن عز الأمة في علمائها، وأن سقوط العلماء سقوط للأمة، لقدرنا علماءنا ومفتينا حق قدرهم.
ومما أضعف أثر الفتوى في النفوس، تضارب الفتاوى وتعددها.. لذا تساهل الناس في أمرها فسألوا أي أحد عن كل شيء. ويا ليت شعري، فهذا دين وفهل عرفنا عمن نأخذ ديننا.
أيها المستفتي: بعض الفتاوى تصلح لزمن دون زمن، ولحال دون حال، ولبلد دون بلد، فتنبه.
أيها المستفتي: مسألة مختلف فيها، خذ الأقرب للدليل، وابتعد عن هواك.
لا يجوز للمستفتي أن يستفتي إلا العالم الثقة المجتهد، ولا يجوز أن يستفتي من كان دون ذلك إلا أن يكون ناقلا عن مجتهد.
أيها المستفتي: إذا تعارضت عندك أكثر من فتوى من علماء ثقات، فإن كنت تستطيع النظر في الدليل، فانظر في أدلة الأقوال، وترجيحاتها واستنباطاتها، عندها خذ أقربها للسُنَّة، وأقربها للصواب.
أما إن كنت لا تستطيع النظر في الأدلة، فقلد قول العالم الذي تثق بعلمه وفضله.
أيها المستفتي: إذا جهلت مسألة ما فسألت عالما تثق بعلمه فأفتاك، فتوقف واعمل بالفتوى. البعض يسأل عالما يثق بعلمه فيفتيه، فتأتي الفتوى على ما لا يرغب ويحب، فيبحث ويسأل حتى يجد عالما يفتيه بما يريد، وهذا هو عين الهوى.
أيها المستفتي: لا تعمل بالفتوى قبل أن يطمئن لها قلبك، وتستريح لها نفسك. رسولك صلى الله عليه وسلم يقول: استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك. إن فتوى المفتي هي وفقا لما تقصه عليه من أحداث ووقائع، فيحكم بما يرى، فإن كان الأمر في الحقيقة بخلاف ما قصصت له، فإنه يتقطع لك قطعة من النار، ولن تخلصك فتواه من النار.
ولو شككت في العالم وعلمه وورعه، وعلمت قلة ديانته ومحاباته وعدم تقيده بالكتاب والسُنَّة فاستفت قلبك ولا تعمل بها، لأن قلب المؤمن دائما حي.. يخاف الحرام.. ويبعد عن الحمى.. خشية أن يقع فيه.