النيران تلتهم تراث تاريخي وتدخله أسوأ حقبة

النيران تلتهم تراث تاريخي وتدخله أسوأ حقبة

دخل العالم في حالة حزن بعد الحريق الضخم التي أصاب عاصمة النور باريس، وأدى إلى انهيار برج الكاتدرائية الذي يعود تاريخه إلى ثمانية قرون، وتلاه حريق في غرفة حارس المسجد الأقصى، على سطح المصلى المرواني، استكمالا لسلسلة كوارث أصابت التراث العالمي، خلال السنوات القليلة الماضية.

حريق ذاكرة البرازيل

قبل سبعة أشهر، شهدت البرازيل كارثة حقيقية حينما التهمت ألسنة الحريق المتحف الوطني، أكبر وأقدم مؤسسة علمية في البلاد في مدينة ريو دي جانيرو، يضم أكثر من 20 مليون قطعة أثرية، بينها آثار مصرية وأحفوريات وأقدم رفات بشرية مكتشفة في الأمريكتين، جمعت على مدى 200 عام.
المتحف الذي احتفل بالذكرى السنوية المائتين لتأسيسه قبل الحريق بثلاثة أشهر، لم يصمد أمام حريق شب في طوابقه الثلاثة، مدمرا تراثا يمتد على مدى 11 ألف سنة من التاريخ الدولي، لا يمكن قياس قيمته التاريخية.
تضمنت مجموعة التاريخ الطبيعي عظام الديناصورات وهيكلا عظميا بشريا يبلغ عمره 12 ألف عام لسيدة تعرف باسم "لوزيا"، وهو الأقدم في الأمريكتين، وكان يعرض أيضا قطعا تاريخية منذ وصول البرتغاليين في القرن الـ16 حتى إعلان الجمهورية في عام 1889، إضافة إلى أرشيف ضخم حول مجتمعات البرازيل الأصلية، وقطعا أثرية مصرية ويونانية ورومانية، ونيازك تم العثور عليها في عام 1784.
ورغم إنقاذ بعض قطع المتحف، إلا أن الكارثة كانت مأساوية، وما زاد الطين بلة أن صنابير مياه الحريق القريبة من المتحف لا تعمل، واضطر رجال الإطفاء للحصول على المياه من بحيرة قريبة، بحسب روبرتو روبادي، المتحدث باسم إدارة مكافحة الحرائق في ريو.

مأساة ثقافية

أما منطقة الشرق الأوسط، فحظيت بنصيب الأسد من المآسي الثقافية التي ألمت بالتراث، منها ما تتعرض له الآثار الفلسطينية من تجريف وتدمير أو تهويد، حيث يعمل الاحتلال الإسرائيلي على سرقة وتزوير التاريخ، لخداع الرأي العام العالمي، وسخر ميزانيات ضخمة لتغيير نقوش الحجارة القديمة بحجة الترميم، وإطلاق القصص والروايات المزيفة حول قبور الأنبياء، مثل قبر النبي يوسف - عليه السلام - في مدينة نابلس.
كما أوكل الاحتلال لضباط جيشه مهمة سرقة الآثار بطريقة منظمة، لبيعها أو ترميمها وعرضها في متاحف دولة الاحتلال، وسط تقديرات لوزارة السياحة والآثار الفلسطينية بأن حجم الآثار المسروقة بلغ مليون قطعة، تعود إلى عصور متباينة من الحضارات التي تعاقبت على فلسطين، ولعل الحفريات الممتدة تحت المسجد الأقصى خير شاهد على ذلك.
أما مصر بدورها فشهدت جانبا من عمليات تدمير التراث، ولو على نطاق محدود، ومن أبرز الأحداث التي شهدتها التفجير الذي استهدف مبنى مديرية أمن القاهرة في 24 يناير 2014، وطالت آثاره متحف الفن الإسلامي، وهو أكبر متحف للآثار الإسلامية في العالم، وواجهته المعمارية المميزة معرضة للتدمير، ومقتنياته من التراث الإسلامي الممتدة على مدار 12 قرنا مهددة.

نهب 12 متحفا في سورية

التراث العربي تعرض لموجة تدمير غير مسبوقة منذ عام 2011، حيث شهدت آثار سورية والعراق وليبيا واليمن دمارا كبيرا، وسرقة ونهبا.
ففي سورية شهدت مدينة تدمر الأثرية في محافظة حمص، التي يعود تاريخها لأكثر من خمسة آلاف عام، تخريبا للآثار المدرجة على لائحة اليونيسكو للتراث العالمي، بعد سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي على المدينة في مايو 2015، ونال التدمير من أهم أثرين في تدمر، هما معبدا بل وبعل شمين، وتم تفخيخهما بكمية كبيرة من المتفجرات.
وفي حلب، أدت المعارك المستمرة بين النظام وقوات المعارضة والفصائل المختلفة إلى تدمير مئذنة الجامع الأموي الذي يعرف بجامع حلب الكبير، وهو أيضا ضمن لائحة اليونيسكو، فيما استهدف قصف لقوات النظام قلعة الحصن في ريف حمص، التي تعد أفضل الحصون الباقية من زمن الحروب الصليبية، وتعرض 12 متحفا من أصل 36 في سورية للنهب والسرقة.
وبحسب صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، عرضت صفحات على "فيسبوك" قطعا أثرية للبيع، مثل الأحجار الكريمة والجواهر والتماثيل، ونقودا ذهبية وفضية تعود إلى العصر البيزنطي، فضلا عن قطع فخارية وزجاجية رومانية تصل قيمتها إلى مئات الآلاف من الدولارات، بعد تعرض نحو 300 موقع أثري سوري للتمدير الجزئي أو الكلي.

أكبر عملية سرقة

شهد العراق أثناء الغزو في 2003 أكبر عملية سرقة آثار في التاريخ، بعد سرقة 15 ألف قطعة نفيسة تختزل حضارة العراق على مدى آلاف السنين، ثم توالت عمليات النبش والسرقة بشكل كبير، استعاد منها العراق أكثر من أربعة آلاف قطعة أثرية تحمل أرقاما متحفية، من محتويات متحف في بغداد، وأكثر من 200 ألف قطعة أثرية تم استردادها هي من مسروقات النبش العشوائي.
عاث تنظيم "داعش" الإرهابي فسادا في المحافظات العراقية، ففي الموصل أحرق المكتبة التاريخية، وحطم القبور التاريخية، ودمر آثار نمرود العاصمة الملكية للإمبراطورية الآشورية، التي فسرها أتباعه بأنها وثنية.
وإلى اليمن، تعرض عدد من المواقع الأثرية والتاريخية للنبش والسرقة والتدمير من قبل ميليشيات الحوثي المدعومة من إيران، خاصة محافظتي أبين وتعز، حيث تعرضت المتاحف لأضرار جسيمة وفقدان لمحتوياتها، في حين أشار فريق من المختصين تابع للأمم المتحدة إلى أنه خاطب منظمة اليونيسكو وطلب التعميم على جميع المتاحف العالمية بمنع شراء القطع والمقتنيات اليمنية، والمتاجرة بهذه القطع، في خطوة تسعى إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

صرح فرنسي

ما أصاب كاتدرائية نوتردام ليس آخر ما يمكن أن يصيب التراث الإنساني، فعدد كبير من المتاحف والمواقع الأثرية العالمية يئن تحت وطأة الإهمال، لعل متحف البرازيل أحدها، إذ إن صنابير المياه لا تعمل، والمبنى كان يحتاج إلى التمويل للترميم، خصوصا أن حالة المبنى متداعية وأرضيته خشبية، وفيه وثائق ورقية سهلت انتقال النيران بسرعة.
أثرياء حول العالم تعهدوا بالتبرع بمبالغ تتجاوز 200 مليون يورو لإصلاح الكاتدرائية، في خطوة تهدف إلى لفت النظر إلى المعالم التراثية الإنسانية حول العالم، التي من الممكن أن تضيع إلى الأبد، فنفقد تاريخا لا يقدر بثمن.

الأكثر قراءة