كاتدرائية نوتردام .. بنيت في 200 عام واحترقت في ساعة

كاتدرائية نوتردام .. بنيت في 200 عام واحترقت في ساعة
كاتدرائية نوتردام .. بنيت في 200 عام واحترقت في ساعة

شهد العالم بأسره؛ بداية الأسبوع الجاري، حدث احتراق جانب من كنيسة السيدة العذراء "نوتردام"، في قلب العاصمة الفرنسية باريس على نهر السين، التي يعود بناؤها بصيغتها الحالية إلى القرن الـ12 "1163-1345" في عهد لويس السابع، بعدما اعتمدت بشكل رسمي كاتدرائية لمدينة باريس في القرن العاشر.
تقوم كاتدرائية نوتردام التي بنى شيلدبرت الأول ملك الفرنجة؛ نسختها الأولى عام 528، في مكان كنيسة "بازيليك القديس استيفان"؛ أول كنيسة في فرنسا، التي أقيمت بدورها على أنقاض معبد جوبيتير الجالو روماني، كدليل على الانتصار ضمن سلسلة الحروب الدينية بين القوميات الأوروبية.
تمثل تحفة فنية من العمارة القوطية التي سادت منذ القرن الـ12 حتى بداية القرن الـ16، واستغرق تشييد هذه المعلمة الإنسانية التي يبلغ عمرها أزيد من 850 عاما، أكثر من مائة سنة على عدة مراحل. وقد أدرجتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونيسكو" عام 1991، ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي.
بلغة الأرقام والمعطيات الهندسية، يبلغ ارتفاع قبة الكاتدرائية 33 مترا، وطولها 128 مترا، وعرضها 48 مترا، وارتفاع البرج 69 مترا، وارتفاع البرج المدبب 90 مترا. وتزينها عشرة أجراس تاريخية فريدة من نوعها؛ أكبرها "إيمانويل" الذي يزن أكثر من 13 طنا، وعديد من التماثيل التي وضعت من الناحية الخارجية، لتدعم العواميد والجدران.
ارتبطت بسلسلة من الأحداث، منها السارة ومنها غير ذلك؛ فيها جرت حفلات زفاف ملكي وأحداث وطنية كالدعوة إلى الحملة الصليبية الثالثة عام 1185، ومراسيم ملكية وإمبراطورية منها تتويج إمبراطور فرنسا الشهير نابليون الأول عام 1084. وكانت عرضة للنهب والسرقة، في أحداث شغب 1548 في عهد كل من لويس الرابع عشر والخامس عشر، وكذلك أثناء اندلاع أحداث الثورة الفرنسية، وفي الحرب العالمية الثانية التي احتفل داخلها بتحرير باريس عام 1944.
ارتبط اسم الكنيسة في الذاكرة الأدبية العالمية باسمي "كوازيمودو" و"أزميرالدا" بطلي رواية "أحدب نوتردام" للأديب الفرنسي الشهير فيكتور هوجو. فبعد نشر الرواية التي كانت الكنسية مسرحا لأحداثها عام 1831، ازداد الاهتمام الرسمي والشعبي بالكاتدرائية، حيث أعيد ترميمها سنة 1844، حتى صارت إحدى أشهر الأماكن السياحية في فرنسا، باستقطابها نحو 14 مليون زائر سنويا.
وربما سيزداد الإقبال على شراء رواية "أحدب نوتردام" والاهتمام بقراءتها، حين نعلم أن هوجو وصف حريق الكنسية ضمن أحداث روايته؛ بشكل جعله في موقع المتنبئ بحريق يوم الإثنين الماضي. حيث يقول "ثم ارتفعت العيون كلها نحو أعالي الكنيسة. فكان ما رأته مدهشا حقا، لقد رأت في قمة الردهة العليا في نقطة أعلى من الوردة المركزية المنحوتة، نارا عظيمة يرتفع شررها في دوامة هائلة بين برجي الأجراس، لقد كانت نارا هائلة غاضبة، تنتزع منها الريح، بين وقت وآخر، شعلة دخانها المتصاعد. وتحت هذه النار، بل تحت الحاجز العلوي... أما اللهب الذي كان يتصاعد فوق سقيفة الكنيسة فقد بقي مشتعلا يضيء المدينة حتى أقصاها. وبدت المدينة متأثرة منفعلة. وانتشرت قرعات الإنذار من أمكنة بعيدة".
صحيح أن هذا الحريق لم يخلف ضحايا في الأرواح، لكنه قضى على جزء مهم؛ غير قابل للتعويض والاستدراك، من الذاكرة الجماعية الأوروبية والإنسانية. بذلك يضاف إلى قائمة أشهر كوارث الحرائق التي شهدها تاريخ الإنسانية الطويل.
من المضحكات المبكيات أن يكون أضخم حريق شهدته أوروبا، وأدى إلى تدمير مركز من مراكز الحضارة البشرية حينها بسبب الكعك، حيث يفيد أغلب المراجع التاريخية، بأن حريق لندن العظيم الذي وقع في 2 من أيلول (سبتمبر) 1666، نتج عن اشتعال النيران في مخبز توماس فارينور؛ الخباز المكلف بصناعة الكعك للملك الإنجليزي تشارلز الثاني.
وقع الحادث إبان تولي شخص يدعى توماس بلودوورث مهام عمودية مدينة لندن، الذي لا يمتلك أي مقومات ذاتية تساعده على إدارة الأزمات. وقد ظهر ذلك بوضوح في طريقة تعامله مع الحريق، حين طالبوه بهدم المنازل الواقعة في طريق النيران، ما يسهل السيطرة عليها، ومنع تمددها. لكن العمدة رفض بحجة أن المباني والأراضي لمستأجرين، ويصعب الوصول إلى ملاكها الأصليين. وقد علق صامويل بيبس الكاتب الإنجليزي على الأمر بقوله "في كل أنحاء العالم، الجميع يصرخ متألما بسبب حماقة عمدة المدينة، خاصة بعد الحريق، ملقين بكل اللوم عليه وحده". قدرت الخسائر المادية لهذا الحريق، بنحو مائة مليون جنيه استرليني بقيمته آنذاك، التي تفوق مليار جنيه استرليني بكثير، بحسب قيمته الحالية. فيما وقع الخلاف بشأن الخسائر البشرية، حيث تشير السجلات الرسمية إلى حالات وفاة فردية، فيما يذهب كتاب ومؤرخون بريطانيون إلى أن الأعداد الحقيقية أكثر من ذلك بكثير، لدرجة أن جون إفلين علق على الأمر مؤكدا أن "هناك رائحة منبعثة من جثث فقراء غير معروفين". حريق شيكاغو العظيم الذي دام لأكثر من يومين، لا يقل سخرية عن سابقه، ففي 8 من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1871، تسببت بقرة غاضبة في اندلاع حريق لم يستطع أحد إيقافه، بعدما ركلت بقرة غاضبة داخل حظيرة صغيرة فانوسا، ما تسبب في اندلاع نيران واحد من أضخم حرائق التاريخ.
لم يكن بمقدور رجال الإطفاء التغلب على الحريق لولا نزول المطر الذي أدى إلى إخماد النيران، بعدما دمرت مساحة تقدر بأزيد من تسعة كيلو مترات مربعة في المدينة الصناعية الأكبر في الولايات المتحدة الأمريكية، بإجمالي خسائر يعادل اليوم أربعة مليارات دولار، وتشريد أكثر من مائة ألف شخص. فيما بقي عدد الضحايا مجهولا؛ بحسب أغلب المؤرخين، إذ من المستحيل إجراء إحصاء دقيق لأعدادهم، فبعضهم حرقوا تماما دون ترك أي أثر.
يصر التاريخ على أن يحتفظ لنفسه بحريق في كل قرن، فلا تمر مئوية دون حريق جديد يضاف إلى القائمة. فقد شهد الدانمارك في القرن الـ18 حريقا قضى على التراث هناك، بعدما التهمت النيران عام 1728 نصف مدينة كوبنهاجن في ثلاثة أيام. وأقدم الروس على إحراق موسكو عام 1812 ليمنعوا نابليون من احتلالها، ما أدى إلى وفاة أكثر من 12 ألف شخص. وكانت طوكيو على موعد مع أكبر حريق عام 1923، بسبب زلزال قوي أدى إلى وفاة 142 ألفا، تضاف إلى 38 ألف شخص بسبب الحريق.
مشاهد كنسية نوتردام تثبت مجددا أن الحرائق والحروب أكبر عدوين للحضارة البشرية، غير أنهما، على عكس الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين والفيضانات... التي يبقى المرء بلا حيلة أمامها، لا تقع إلا بفعل تدخل بشري، ما يعني في المحصلة أن الإنسان هو من يدمر ما بناه أخوه الإنسان بيديه، فالحرائق مجرد أداة فقط.

الأكثر قراءة