دول مجلس التعاون الخليجي أمام الأزمات الاقتصادية
تاريخيا، يعد اقتصاد دول مجلس التعاون الخليج من أكثر اقتصادات دول المنطقة تأثرا بالأزمات الاقتصادية وغير الاقتصادية العالمية والإقليمية نظرا للطبيعة الهيكلية الخاصة لهذه الدول التي تتسم بالانفتاح الخارجي الكبير على دول المنطقة والعالم في مجالات التبادل التجاري والاستثمار وتدفق الموارد المالية والبشرية وغيرها من المجالات الاقتصادية الأخرى.
نحن نقول هذا والأجواء السائدة حولنا حافلة بالأحداث الاقتصادية المتسارعة التي من أهمها الأزمة المالية التي تعصف بالاقتصاد الأمريكي والعالمي، والأجواء السياسية المتشجنة في المنطقة، حيث تلوح في الافق بوادر صراع مع إيران لا يعلم إلا الله مدى هذا الصراع وإلى ما ستؤول إليه الأمور من صدام عسكري أو حتى سياسي حاد.
ويتطلب التعامل مع الأزمات أنواعها بداية المقدرة على التنبؤ بها، ثم المقدرة على إدارتها أثناء حدوثها. ولا نستطيع أن ننكر ونحن نتحدث عن التنبؤ بالأزمات أن الأمر أصبح من الأمور المعقدة جدا التي تلعب فيها عوامل متداخة وأحداث متسارعة تجعل أكثر المتبصرين قدرة يقف عاجزا عن سبر غور ما يمكن أن تتمخض عنه الأيام من أحداث، وما تخبؤه الأقدار لنا من أحكام ليس لنا إلا العمل على التعامل مع معطياتها وتداعياتها بخيرها وشرها. ومهما حاول البعض الادعاء بأن التنبؤ بالأزمات أصبح علما مستقلا بذاته، إلا أننا نعتقد أن هذا العلم ما زال غير مكتمل الأركان، وما كان له أن يكون كذلك، بل هو أقرب إلى الرجم بالغيب، والضرب بالودع.
ولعل خير شاهد لنا على ذلك الأحداث الجارية حاليا على مستوى الأزمة المالية التي تعصف بالاقتصاد الأمريكي، وقبلها أزمات أخرى مماثلة كالأزمة المالية التي ضربت أسواق الدول الآسيوية، والأزمة التي ضربت أمريكا الجنوبية، وانهيار الأسواق المالية فيما عرف بالإثنين الأسود في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي وغيرها من أحداث أخرى على الصعيد العالمي. فقد عجز الخبراء والمتخصصون من كبار الاقتصاديين لدى المؤسسات المالية الدولية المعنية، وصناع القرار الاقتصادي في هذه الدول عن التنبؤ بحدوث مثل هذه الأزمات أو توقع حدوثها فنزلت على رؤوس الجميع كقدر محتوم لا انفكاك منه... وذهبت آراء الخبراء وتوقعاتهم أدراج الرياح، حتى أصبحت مقولة "كذب الخبراء ولو صدقوا" أقرب ما تكون إلى الحقيقة.
بل إننا نقول إن عدم المقدرة على التنبؤ بالأزمات المالية لم يقتصر على مستوى الاقتصاد الكلي للدول والمستوى الإقليمي والعالمي، بل امتد في كثير من الأحيان إلى مستوى المنشأة والمؤسسة والشركة، فمن من الخبراء والمختصين استطاع أن يتنبأ بالأزمة التي ألمت بشركة أرنون العالمية وأخواتها نتيجة لما مارسته من فساد مالي، وكيف أفاق العالم فجأة على الوضع المالي المتردي لبنوك الاستثمار العالمية مثل ليمان براذرز وغيره من شركات التأمين فيما كانت قوائمها المالية قبل أيام قليلة تفصح عن أرباح مالية طائلة.
لسنا نطالب هنا بالكف عن التنبؤ، بل إننا ندعو إلى الأخذ بكل معطيات استشراف التطورات المستقبلية الممكن حدوثها والاستعداد لها قدر المستطاع، لكننا نقول إن علينا ألا نتوقع الكثير من هذه العملية، وأن نجهز أنفسنا دائما لأزمات غير متوقعة وأن نعمل على تطوير قدراتنا وتسخير إمكانياتنا لإدارة الأزمات.
وإذا كانت خلاصة ما ذهبنا إليه سابقا هي صعوبة التنبؤ بالأزمات، فإن الإدارة الناجحة لهذه الأزمات هي فن الممكن والمتاح، وعلى دول المجلس دائما إعداد نفسها وتسخير كافة إمكانياتها للتعامل مع هذه الأزمات، التي غدت جزءا لا يتجزأ من خصائص الاقتصاد العالمي والليبرالية الاقتصادية عموما، والاقصاد الخليجي خصوصا.
وقد واجه صناع القرار الاقتصادي في الخليج دوما تحديا أساسيا تمثل في توفيق وتعديل السياسات الاقتصادية المحلية مع طبيعة الضغوطات والمتطلبات الاقتصادية التي تمليها الأحداث الخارجية المتسارعة والمتقلبة والمفاجئة، وفي الوقت نفسه المحافظة على المصالح الاقتصادية لدول المجلس، أو على أقل تقدير عدم الإضرار بها.
وقد نجحت هذه السياسات في مجالات معينة وأخفقت في مجالات أخرى عديدة، لكن يمكن القول بصفة عامة إن دول المجلس عانت على الدوام السياسات الاقتصادية الارتجالية أثناء الأزمات، تلك السياسات التي تؤخذ على عجل وبصورة غير مدروسة العواقب والنتائج، وتأتي في غالبيتها كردة فعل وقتية على أحداث معينة، فالاستراتيجية الخليجية لإدارة الاقتصاد أثناء الأزمات لم تتضح قسماتها بعد.
لقد أصبحت إدارة الأزمات الاقتصادية علما اقتصاديا مهما ويرتبط ارتباطا وثيقا بفن القيادة الاقتصادية الحكيمة التي تأخذ بعين الاعتبار تأثير الأحداث غير المتوقعة في الأداء الاقتصادي الكلي والقطاعي. لذلك فإن هناك حاجة ماسة للمحافظة على المنجزات والمكتسبات الاقتصادية التي تحققت عبر سنوات من الجهد والعمل الدؤوب الذي لم يعرف الكلل أو الملل إلى إحداث تغييرات جوهرية على طريقة إدارة الاقتصاد بما يتوافق مع طبيعة ما يشهده العالم من تغييرات جديدة ومفاجئة كل يوم.
إننا ندعو من على هذا المنبر إلى تبني استراتيجية اقتصادية شاملة للتعامل مع الأزمات بأنواعها وذلك على المستويين الكلي والجزئي. أما على المستوى الكلي فالأمر يتطلب تعزيز دور الحكومة الاقتصادي في مجال الراقبة والإشراف والتوجيه، وبالتالي تخصيص الموارد المالية والبشرية لتفعيل هذا الدور، والعمل على التدخل المباشر في النشاط الاقتصادي في أوقات الأزمات الحادة والصعبة التي لا تستطيع أدوات السياسة الاقتصادية الاعتيادية معالجتها.
أما على المستوى الجزئي فالمطلوب تعزيز مبادئ الحوكمة بما تتضمنه من شفافية ومحاسبة وفصل الإدارة عن الملكية وغيرها من متطلبات القيام بالعمل الاقتصادي الحر على أسس من الثقة والوضوح تعزز الثقة بالأداء الاقتصادي العام لأية دولة.
وقد يكون من المفيد هنا أيضا الدعوة إلى العمل على تشكيل لجنة أو فريق عمل يضم ممثلين من أعلى المستويات الحكومية والخاصة لوضع الخطوط العريضة والتفصيلية لهذه الاستراتيجية وما تتطلبه من سياسات وإجراءات تفصيلية يفترض اتخاذها لتدارك النتائج السلبية للأزمات التي قد تؤثر في أداء الاقتصادي سواء كانت أزمات مالية أو تطورات وأحداث اقتصادية وغير اقتصادية لتعمل هذه السياسات على تحصين الاقتصاد الخليجي في مواجهة الآثار السلبية لمثل هذه الأزمات.