الانتصار للحاضر .. وجودنا المرتجل باستمرار
مهما حاول المرء إقناع ذاته بأن ما نعيشه من سطوة للافتراضي على الواقعي، والمراوحة بينهما جيئة وذهابا، مجرد تحولات عادية، تندرج ضمن الديناميكية التي تحرك التطور الإنساني عبر التاريخ الطويل. فحتما سيعجز عن التدليل على ذلك؛ لأن النظر في سرعة وحجم ومناحي هذه التحولات، يدفع إلى الإقرار بأننا أمام ثورة رابعة مكتملة الأركان، ثورة رقمية تقذف بالإنسانية في عوالم كانت لزمن قريب جدا تخالها ضربا من الخيال العلمي، لا تقبله إلا في الأفلام والروايات.
بعيدا عن التجريد، ولتقريب الصورة أكثر إلى الأذهان حول مناحي هذه الثورة في واقعنا المعيش، نتأمل النقلة الفريدة التي لحقت بحياة الإنسان بعد ظهور الهاتف المحمول، حيث أضحت إمكانية التواصل بين الناس في أي لحظة وفي أي مكان، بمعنى أن الآخر أضحى يمتلك وسيلة للوصول إلينا في أي وقت وأي مكان. هل هو شيء مضاف أم شيء يحط من قيمتنا؟ تختلف الإجابات باختلاف مستوى وعي وإدراك مفاهيم من قبيل "الخصوصية"، "الحرية"...إلخ.
في الماضي، كان المجتمع منضبطا في علاقاته العامة إلى أقصى الحدود، وكان حريصا على احترام المواعيد. فمن المستحيل أن تصلك رسالة قصيرة قبل موعد مقابلة عمل مثلا، تقول إن الموعد ألغي لوقت لاحق. وقد يأتيك اتصال من صديق تنتظره في المقهى، يخبرك بأنه سيتأخر ربع ساعة أو أكثر... لأن كل هذا ضد أبسط قواعد اللياقة والآداب، ما تطبعنا معه في حياتنا اليومية، وصار مألوفا وجد مقبول.
كانت المشافهة مع بعضنا بعضا هي الأصل، عوض الاكتفاء بتبادل رسائل نصية أو صور أو إيحاءات متوافق حول معناها. ولكي نطمئن على أصدقائنا، كنا نزورهم في منازلهم بشحمهم ولحمهم، عوض الاكتفاء بتصفح حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لمعرفة آخر تحديث لتلك الحسابات، وفي أحسن الأحوال ترك رسالة خاصة بها. هل اضمحلت قوة المشاعر والانفعالات لدى أفراد اليوم إلى هذا المستوى؟
أكثر من ذلك، لم يسبق للإنسان عبر التاريخ أن أتيحت له فرصة مخاطبة؛ ونقصد في هذا السياق الدردشة، ثلاثة أو أربعة أفراد في الوقت نفسه، من عوالم مختلفة: صديق طفولة، زميل عمل، فرد من العائلة، صديق افتراضي.. يصعب الجمع بينهم من الناحية الواقعية، لاختلاف وتباين موضوعات النقاش. ببساطة، لقد صرنا غير مبالين بأهمية الوقت الذي يتطلبه الإحساس بالآخر، من خلال مخاطبته أو الاستماع إليه.
لم يسلم الزمن بدوره من هذه التحولات، مع إعلاء ثقافة "هنا والآن"؛ حيث بدأ الانتصار للحاضر، مقابل تواري أسباب الأمل في مستقبل أفضل. هل تحققت النبوءة بنهاية الزمن التاريخي، لكي يحل محله الزمن الراهن الذي لا ينتشر قبل ولا بعد، بل ينكفئ على اللحظة وحدها؟ قول كهذا يفرض إعادة النظر في رؤيتنا للأبعاد الثلاثة المستعملة في الزمن: الماضي والحاضر والمستقبل، كي لا نحتفظ منه سوى ببعد واحد: المباشر المتصل.
يفضي بنا الإفراط في التواصل المباشر، إلى التأسيس لمجتمع شفاف أصبح من الصعب داخله إخفاء أي شيء ما، أو الاحتفاظ به في سرية تامة. لقد انتقلنا مثلا من مجتمعات كانت فيها الصور قابلة للتداول العمومي؛ بما فيها الصور الخاصة، إلى مجتمعات كل الصور فيها عمومية؛ حتى تلك التي يجب أن تظل خاصة.
إننا أمام "مجتمع الفرجة" الذي تحدث عنه مبكرا الكاتب الفرنسي جي دوبور عام 1967، لكنه في هذه النسخة مجتمع فرجة بدون محكيات ولا سيناريوهات. فنحن لا نكلف أنفسنا كتابة قصة، إنما نكتفي بتصوير أناس يمارسون حياتهم اليومية. مع فارق وحيد هو أن هؤلاء يتحركون بدون سيناريو، وهم واعون أنهم محل تصوير "إنهم يرتجلون وجودهم باستمرار".
لقد انتهى زمن الخطابات الطويلة، فالعالم الآن يُكتب بالصور. بمعنى آخر، إنه لم يعد قابلا لأن يحكى، إنه يكتفي بأن يكون قابلا لأن يرى؛ لقد حلت الرؤية محل الفكر. قول تعترض عليه الكاتبة الفرنسية إلزا جودان، عادة "الصورة أيضا لغة" بذلك نكون أمام اختفاء لغة "الكتابة" وميلاد لغة أخرى "الصورة"، غير أنها لغة لم يعد التأويل فيها أولوية عكس سابقتها.
صفوة القول، إننا نعيش تجارب لم يسبق أن عشناها من قبل، فالفواصل المرسومة بين الافتراضي والواقعي تتجه تدريجيا نحو الزوال. ليس هذا فحسب، بل إن الافتراضي في طريقه إلى أن يحل محل الواقع؛ لأنه يعمل على توسيعه، وإغنائه ليصل في النهاية إلى تغييره أيضا.
ألم يتحول الانفتاح على العالم الذي مكنتنا منه الثورة الرقمية إلى عزلة قاتلة، بعدما وجد الأفراد أنفسهم في عالم مفرط في التواصل. لكنهم في المقابل، يشكون من الوحدانية والعزلة والاغتراب. تدريجيا، يقود التحالف بين الذكاء الإنساني والذكاء الرقمي إلى تحول الكائن الإنساني، ألم يختف المواطن وحل محله المستهلك، ذاك الكائن الذي يقيس حجم الزمن في حياته بكميات الأشياء التي يستهلكها. لقد انتقلنا؛ ضمن هذه الزمنية الجديدة، من الإنسان الفرد الذي يأتي إلى الفضاء العمومي حاملا معه قيما وأحلاما ورؤى، إلى ذات مشدودة إلى حاجات تقتضي إشباعا في الـ"هُنا" والآن.
باختصار، لقد سقطت المشاريع الكبرى؛ في السياسة والفلسفة والقيم، ولم يبق هناك سوى لحظات تعاش وفق إيقاع استهلاكي لا ينفتح على أفق، بل يجدد الرغبات ضمن دروة زمنية يحاصرها الحاضر من كل الجهات.