في مدح الروتين .. بحثا عن الرتابة المثالية

في مدح الروتين .. بحثا عن الرتابة المثالية
في مدح الروتين .. بحثا عن الرتابة المثالية

يعود أصل كلمة "الروتين" إلى اللغة الفرنسية routine، ويرادفها في اللسان العربي "الدأب والتعود على تكرار عمل أو سلوك معين، ما قد يترتب عليه إحساس بالملل والرتابة". يدفع هذا الأمر كثيرين من حولنا إلى البحث الدائم عن التغيير والسعي نحو التجدد والتجديد، بدعوى الخروج من الروتين وكسر النسقية في الحياة، وحتى من لا يجد سبيلا إلى تحقيق ذلك، لا ينفك عن التأفف والضجر من مسار حياته المخطط له، المبرمج بشكل مسبق.
تحول الروتين بشكل تلقائي لدى الأغلبية الساحقة إلى كلمة سيئة السمعة؛ فهي مرادف لكل ما هو مذموم ومحتقر، يبعث على اليأس والقنوط. إنه باختصار، دوامة من العمل المنتظم بمواعيد وأيام محددة، نقوم به دونما قدرة على التغيير أو التبديل.
بيد أن إمعان النظر في الأمر، يفضي بنا إلى الاعتراف بحقيقة أن "الإنسان عدو ما يجهل". إذ بتغيير زاوية الرؤية، نكتشف أهمية العمل الذي نعده روتينا ورتابة، ما يجعل نظرتنا إليه مختلفة عن السابق. مع التأكيد طبعا على ضرورة ضمان هامش من المرونة أو وجود منسوب من السلاسة فيه، حتى لا يشعر صاحب العمل بالعبودية والرق وهو بصدد إنجاز عمله.
بناء عليه، يصبح الروتين الذي لا يتوقف معظمنا عن ذمه صباح مساء أمرا محدودا، بل مرغوبا فيه بشدة، شريطة إعمال الفرد للوعي بأهمية ما يقوم به من عمل، وإدراكه قيمة ما هو مقبل على تقييمه من خدمة. بهذا المعنى تبقى مسألة الرتابة؛ التي نمتعض من ملاحقتها لنا في الحياة اليومية شأنا ذاتيا أكثر منها معطى موضوعيا، ففي البدء والمنتهى يظل تلقي الفاعل للمسألة محددا في تقدير روتينية الأمر من عدمه.
من ناحية أخرى، يمنح هذا الروتين فرصة للإنسان من أجل تنظيم مهام يومه بشكل فعال، ويمنحه القدرة على التقييم وقياس القدرة والفاعلية في الإنجاز، دون أن يغرق في فوضى المهام المتأخرة التي يوقعنا فيها ترك الأمور تسير بلا نظام. كما أن هذا الروتين "المجني عليه"، يبقى السبب وراء استمرار الكائن البشري على قيد الحياة، فلولا إصرار كثيرين من بيننا على خوض غماره، لتوقفت كثير من الأشياء، وربما تتعطل الحياة بأكملها.
بعيدا عن التعاطي السلبي مع الروتين، نكتشف أن هذا الأخير كان بمنزلة العمود الفقري في حيوات كثير من المبدعين والكتاب والفلاسفة والمفكرين، ممن كان لهم شأن عظيم كل في مجال تخصصه، وتركوا بصمتهم الخالدة في التاريخ الإنساني. فوفق الكاتب ماسون كيري، في كتابه "الطقوس اليومية: كيف يعمل الفنانون"، "يؤدي الروتين الثابت والصعب إلى تعزيز وتقوية الوضع المبتذل المرتبط بالطاقات الذهنية للشخص، إضافة إلى المساعدة على تجنب وجود الحالة المزاجية للاستبداد".
يكتشف قارئ الكتاب أن ماسون؛ وهو يستعرض تجارب ما يربو على 160 شخصية في شتى المجالات، يسرد مزيجا من المعارف والوقائع من حياة هؤلاء، تاركا للقارئ النبيه حرية اختيار التفاصيل التي يجد ذاته تتقاسمها مع بعض من تلك الأعلام. فالكاتب لا يسعى إلى تقديم دليل مرشد حول كيفية تنظيم الوقت، وفي الوقت نفسه لا يسوق في مختلف التجارب التي اختارها لنموذج بعينه من الروتين ينبغي التقيد به أو الخضوع له.
فالأديب الروسي تولستوي، على سبيل المثال، لا يتردد في عد الكتابة عملا روتينيا، بقوله ذات مرة على هامش كتابته "الرب والسلم"، "علي أن أكتب كل يوم دون استثناء، ليس فقط من أجل نجاح العمل، لكن لكيلا أغادر روتيني". فيما حدد الكاتب وليام فولكنر لنفسه "رقم 3000 كلمة تنبغي كتابتها كل يوم، لا يهم أين؟ وكيف؟ ومتى..."؟ بقدر ما المهم عنده أن تكون الكلمات محررة ما بين اليوم والليلة.
وكشف الروائي فرانز كافكا في إحدى رسائله إلى خطيبته عن روتينه اليومي في الكتابة قائلا، "من الثامنة حتى الثانية أو الثانية والنصف في المكتب، ثم أتناول الغداء في الثالثة أو الثالثة والنصف، بعدها أقضي الوقت في محاولات أن أنام حتى السابعة والنصف، وبعد أن أستيقظ ألعب رياضة لعشر دقائق في الهواء الطلق، ثم أسير لساعة وحيدا أو مع صديقي ماكس برود، بعدها أتناول طعام العشاء مع عائلتي، ومن العاشرة والنصف حتى الواحدة أو الثانية أو الثالثة أو حتى السادسة صباحا، على حسب طاقتي، أكتب".
في حوار مع مجلة فرنسية، يتحدث الروائي الياباني هاروكي موراكامي عن روتينه اليومي، وهو بصدد كتابة الرواية، "استيقظ في الرابعة صباحا، وأعمل لخمس أو ست ساعات، بعد الظهيرة، أجري عشرة كيلو مترات أو أسبح 5٫1 كيلو متر، وأحيانا هما معا، بعدها أقرأ قليلا، وأستمع للموسيقى حتى التاسعة مساء. أحافظ على ذلك الروتين كل يوم بلا أي تغيير.
التكرار في حد ذاته شيء مهم، إنه نوع من التنويم، أقوم بتنويم نفسي لأصل إلى حالة ذهنية أعمق".
أحيانا يصبح الروتين علاجا، كما يحكي إنجمار بيرجمان المخرج السويدي - الذي أصيب بانهيار عصبي ألزمه المشفى لأسابيع عدة - عن نفسه، حين قرر المغادرة مقيدا نفسه بروتين صارم، "شننت هجوما على الشيطان في داخلي بواسطة نهج أثبت فعاليته خلال أزمات سابقة. كان هذا النهج يقوم على تقسيم أيامي وليالي إلى وحدات زمنية تتضمن كل واحدة منها نشاطات معدة سلفا تتخللها فترات من الراحة. وقد استطعت من خلال اتباع هذا البرنامج بصرامة أن أحافظ على سلامة عقلي من عذابات مؤلمة. باختصار، فقد عدت لتخطيط حياتي وممارستها بعناية فائقة". الروتين في تجربة الرجل للعلاج، وقبل ذلك للعطاء في مهنة شاقة كصانع أفلام؛ التي يصفها في حوار له، "أتعلم ما صناعة الأفلام؟ إنها ثماني ساعات من العمل الشاق في كل يوم لتحصل في النهاية على ثلاث دقائق من الفيلم، وخلال تلك الساعات الثماني، ربما تأتي عشر دقائق أو 12 دقيقة من الإبداع الحقيقي إن حالفك الحظ، ومن الممكن ألا تأتي. حينها، سيكون عليك تهيئة نفسك لثماني ساعات أخرى وأنت تدعو أن تحصل على عشر دقائق جيدة هذه المرة". صفوة القول، إن ما تعده العامة روتينا قاتلا، يسرق من عمرها الأيام والسنوات بلا طائل، استطاعت الخاصة تحويله إلى طقس يومي، يساعدها على الإبداع والعطاء والإنتاجية. وقبل ذلك يمكنها من التلذذ بالعيش واستطابة الحياة... لكل ذلك يصير الروتين أمرا مستحبا، ومرغوبا فيه لكل واحد منا، فما علينا سوى الجلوس مع ذواتنا والبحث قليلا عن الروتين اليومي المثالي.

الأكثر قراءة