"مزاين الإبل" وشركات التأمين.. حينما تنقلب المعادلة
لنفرض أن شخصا ما قام بالتأمين على ناقته "المزيونة" التي تبلغ قيمتها عشرة ملايين ريال لدى إحدى شركات التأمين، ومن ثم نفقت هذه الناقة فستدفع له شركة التأمين مبلغ عشرة ملايين ريال عداً ونقداً، ولنقارن ذلك بأسرة مكلومة فقدت عائلها فلن تتجاوز الدية الواجب دفعها للورثة 100 ألف ريال، وبحسبة بسيطة فإننا لو حوّلنا قيمة دية هذا المتوفى إلى قيمة عينيّة مقارنة بهذه الناقة فلن تجد الإنسان وفقاً لهذا الأمر يساوي على أكثر تقدير فخذ أو جمجمة أو خف ناقة. بل لو قلبنا مفهوم المعادلة رأسا على عقب لخلصنا إلى نتيجة مذهلة, وهي أن دية الناقة الواحدة تساوي في عصرنا "المجنون" هذا 100 رجل.
السؤال الذي يطرح نفسه بعد هذه النتيجة الغريبة هو هل العيب في الدية نفسها أم العيب في طريقة احتساب الدية عندنا؟ وحتى أستخلص معك ـ عزيزي القارئ ـ الإجابة عن هذا التساؤل, فيلزم العلم بأن نظام الدية هو نظام معمول به في الجاهلية وأقره الإسلام. وقد حدد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدية بـ 100 من الإبل على اختلاف أشكالها.
ومن المعلوم أن الإبل آنذاك تُعد من أهم الممتلكات التي يُقاس بها ثراء الرجل، وكانت العاقلة في الجاهلية وهم أقارب الجاني أو عصبته يأتون ليلاً ويعقلون 100 ناقة عند أهل الدم أي عند أقارب المجني عليه ويغادرون في ساعتهم خوفاً من أن يعلم أهل المجني عليه بمجيئهم فينتقمون منهم, ولذلك سمّوا بالعاقلة، وعند الصباح يستيقظ أهل المجني عليه على هذه الثروة الهائلة التي حطت عليهم بِليل، فيجنحون في الغالب إلى التنازل عن الثأر ويحتفظون بهذه الثروة التي ستغير مجرى حياتهم الاقتصادية.
وحتى نتعمق أكثر في وصف هذه الحالة فدعني عزيزي القارئ أحسب معك هذه الثروة آنذاك بشكل أكثر دقة أي بلغة الأرقام, ولنأخذ مثلاً أهم عمل كان يمارس في ذلك الوقت وهو رعي الإبل، فوظيفة رعي الإبل أو الأغنام هي من الوظائف ذات الكسب العالي في ذلك الوقت, وهي تعادل دون مبالغة وظيفة مدير تنفيذي في عصرنا هذا، ولكن من باب الواقعية والتبسيط فإننا سنقارن دخل هذه الوظيفة بدخل أبسط موظف في عصرنا الحاضر أي موظف براتب خمسة آلاف ريال، وإذا علمنا أن أجرة رعي الإبل في ذلك الوقت هي ناقة عن كل سنة يقوم بها المكلّف برعي هذه الإبل، وقمنا بمقارنتها بالدخل السنوي لذلك الموظف لتبين لنا أن قيمة الناقة في ذلك الوقت تعادل 60 ألف ريال (لاحظوا ذلك مع أني متمسك بأن وظيفة رعي الإبل هي من أهم الوظائف وأعلاها دخلاً آنذاك)، وبحسبة بسيطة فإن دية المجني عليه تعادل 100 سنة عملا, ولو جمعنا دخل هذا الموظف البسيط لمدة 100 سنة لعرفنا ببساطة قيمة الدية الواجب دفعها في عصرنا الحالي وهي ستة ملايين ريال عداً ونقداً.
لذلك فإني أظنك عزيزي القارئ استنتجت الإجابة عن السؤال الذي طرحناه سوية, وهو أن العيب حتما ليس في الدية نفسها ولكن العيب هو في طريقة احتساب الدية والتقييم غير الدقيق وغير العلمي للإبل في وقتنا الحاضر.
السؤال الآخر الذي يثور هو: ما دخل شركات التأمين بهذا الكلام؟ والإجابة ببساطة على ذلك هو أن التأمين يجب أن يمثل حافزا مهماً لنا لإعادة احتساب الدية، فشركات التأمين في الغالب هي من يدفع الدية, ولذلك فيجب أن يكون مبلغ الدية المعمول به مبلغاً يليق بكرامة الإنسان ويحقق تعويضا عدلاً له أو لورثته ويحقق له المساواة في القيمة مع أقل "مزيونة" من مزايينا.