علينا احترام الطرف الآخر فنحن مأمورون أن ننزل الناس منازلهم

علينا احترام الطرف الآخر فنحن مأمورون أن ننزل الناس منازلهم

عندما تبدأ في قراءة سورة القرآن، في ثاني سورة منه سورة البقرة، في أولها، تجد ذلك الحوار العظيم الجليل، بين الله وملائكته، وموضوع الحوار: هو بشأن الخليفة الأول على وجه الأرض "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون..، ثم يتبعه حوار بين الله تعالى وشر مخلوقاته إبليس عليه اللعنة، (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) ثم حوارٌ بين إبليس وأبينا آدم، ثم حوار بين الله تعالى وآدم.. ثم حوارات متعددة بين الله وبني إسرائيل.. وتمضي قدماً في كتاب الله: ترى أساليب متنوعة من الحوار، وطرقاً مختلفة من الإقناع والمحاجة.
وكلامي هذا ليس موجهاً للمتحاورين في القنوات.. أو المتجالدين على أوراق الصفحات والمنتديات.. بل هو موجه للجميع.. لأننا دائماً ما نتحاور ونتناقش.. لا يخلو من ذلك مجلس ولا حديث.. يتحاور الرجل مع صديقه.. والزوج مع زوجه.. والأب مع ابنه وبنته.. كلنا نتحاور.
إن المحبة والخير وسيلتهما الحوار.. فالخلاف صبغة بشرية.. وهو سنة الله في خلقه، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطبائعهم ومداركهم ومعارفهم وعقولهم، قال تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) والحوار من شأنه تقريب النفوس وترويضها، وكبح جماحها.. والحوار تصحيح كلام، وإظهار حجة، وإثبات حق، ودفع شبهة، ورد الفاسد من القول والرأي.
أيها الحبيب: قبل أن نتحاور يجب الاتفاق على المنطلقات الثابتة والأصول المسلمة.. فيكون للمتحاورين مرتكزات ينطلقون منها، فالمسلم مرتكزاته وأصوله الكتاب والسنة، وغيره تجادله مما عنده بالأدلة العقلية الحجة السليمة.
وأثناء الحوار نسلك الطرق العلمية ونلتزم بها فكل طرف يقدم أدلته المثبتة والمرجحة للدعوى، ولا يكون كلاماً وغوغاء، وحديث هباء، فحديثك جلي بعباراته وجلي بدليله. دليل عقلي إن كانت قضايا عقلية ونقلي صحيح في القضايا النقلية (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).
أيها الحبيب: يجب في الحوار التجرد وقصد الحق والبعد عن التعصب.
إن إتباع الحق والسعي للوصول إليه والحرص على الالتزام به هو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا عوج فيه ولا التواء، ويحول دون الانسياق وراء الأهواء.. والعاقل فضلاً عن المسلم الصادق، طالب حق باحث عن الحقيقة ينشد الصواب ويتجنب الخطأ وليس المقصد في الحوار العلو في الأرض ولا الفساد ولا الانتصار للنفس، ولكن المقصود الوصول إلى الحق.. قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ: (ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ وما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، وما كلمت أحداً قط إلا ولا أبال بين الله الحق على لسانه أو لساني).
أيها الحبيب: يجب قبل الحوار تحديد الهدف.. وإلا كان الحوار مراءً وجدالاً مذموماً قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ محذراً (ما ضل قوم بعد هدىً أتاهم إلا أوتوا الجدل).. الجدال المذموم هو ما كان بلا هدف ولا غاية.. أو كانت أهدافه مذمومة باطلة.. في وصف جدال الكافرين قال تعالى: (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم..) إذا ما كنت ذا فضل وعلم بما اختلف الأوائل والأواخر.. فناظر من تناظر في سكون حليماً لا تلح ولا تكابر يفيدك ما استفاد بلا امتنان من النكت اللطيفة والنوادر.. وإياك اللدود ومن يرائي أني قد غلبت ومن يفاخر فإن الشر في جنبات هذا يمني بالتقاطع والتدابر.
أيها الحبيب: أما آداب الحوار: فالأول: التزام القول الحسن وتجنب منهج التحدي والإفحام فأول ما يتواجه إليه المحاور في حواره هو التزام الحسنى في القول والمجادلة (وجادلهم بالتي هي أحسن..) والعاقل اللبيب الطالب للحق ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والتهزئة والسخرية وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز.. ومن لطائف التوجيهات الإلهية لنبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الباب: الانصراف عن التعنيف في الرد على أهل الباطل حيث قال الله لنبيه (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون * الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون).. العاقل يتجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث، وتعمد إيقاع الخصم في الإحراج ولو كانت الحجة بينة، والدليل دامغاً، فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف.. والحرص على القلوب واستلال السخائم أهم وأولى عند المنصف العاقل من استكثار الأعداء. وإبعاد الأصدقاء. وكانت وصية الله تعالى لموسى وهارون حين أرسلوا لمحاورة فرعون أن قال: فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى.
والأدب الثاني: الابتعاد عن رفع الصوت، والانفعال والغضب، فانتفاخ الأوداج لا يولد إلا غيظاً وحقداً وحنقاً، رفع الصوت لا يقوي حجة، ولا يجلب دليلاً ولا يقيم برهاناً بل إن صاحب الصوت العالي لا يعلو صوته في الغالب إلا لضعف حجته وقلة بضاعته، فيستر عجزه بالصراخ، ويواري ضعفه بالعويل، والطبل المجوف صوته يصم الآذان.. وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان.. لما ذهب حاطب ـ رضي الله عنه ـ للمقوقس قال له المقوقس: يا حاطب! كيف الحرب بين محمد وبين المشركين؟ قال: سجال، يغلبهم ويغلبونه، قال المقوقس النصراني: أنبي الله يغلب؟! فقال حاطب: وابن الله يصلب؟! فبهت وسكت.
والأدب الثالث: احترام الطرف الآخر، فنحن مأمورون أن ننزل الناس منازلهم، وألا نبخس الناس أشياءهم، فليس نجاح الحوار والمناظرة مرهوناً بإسقاط شخصية الطرف الآخر الذي تناظره، ولا إسقاطك لشخصيته يعني أنك نجحت في المناظرة، بل ربما يرتد الأمر عليك، ويكون هذا دليلاً على عجزك وإفلاسك، وأنك لا تملك الحجة فاشتغلت بالمتكلم عن الكلام.. فأنت تحاور حول قضية فأت ببرهانك ودع عنك شخص من أمامك.
الأدب الرابع: ليحذر المرء من أخذ زمام الحديث بالقوة، ولا يدع للخصم فرصة للتحدث.. وكما قال ديل كارنيجي: إذا أردت أن ينفض الناس من حولك ويسخروا منك عندما توليهم ظهرك، فهاك الوصفة: لا تعط أحداً فرصةً للحديث تكلم دون انقطاع وإذا خطرت لك فكرة بينما غيرك يتحدث فلا تنتظر حتى يتم حديثه فهو ليس ذكياً مثلك، فلماذا تضيع وقتك في الاستماع إلى حديثه السخيف؟ اقتحم عليه الحديث، واعترض عليه في منتصف كلامه واطرح ما لديك! هي وصفة سريعة كي تبغض.
الأدب الخامس: الموضوعية في الحوار والمناقشات: الموضوعية تعني رعاية الموضوع وعدم الخروج عنه، وعدم إدخال الأحاديث بعضها في بعض.. الموضوعية تقتضي ألا تخرج من نقطة إلا إذا انتهيت منها، ثم تنتقل إلى غيرها.. أما إذا أغلق عليه سبيل ونفذت منه الحجة قفز إلى موضوع آخر.. يروغ كما يروغ الثعلب.. فهذا ترك محاورته أسلم للعقل.
الأدب السادس: ابدأ دائما بمواضع الاتفاق والاجتماع: ابدأ مع من تحاور بالأسئلة التي يجيب عليها بنعم.. وانقله من نتيجة منطقية إلى أخرى.. ودع دائماً لا في النهاية . أما من يبدأ بـ لا فقليلاً ما يصل لنعم.
الأدب السابع: حسن الاستماع والإصغاء: أيها الحبيب: إن فن الإصغاء إلى الآخرين قل من يجيده، فالكثير يجيد الحديث أكثر مما يجيد الاستماع، والله تعالى جعل لك لساناً واحداً وجعل لك أذنين، حتى يكون ما تسمعه أكثر مما تتكلم فيه.. فلنتعلم حسن الاستماع كما نتعلم حسن الكلام.. ومن حسن الاستماع إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه، والإقبال عليه بالوجه، والنظر إلى المتكلم، والوعي بما يقول. عطاء بن أبي رباح رحمه الله يقول: إن الشاب ليتحدث بحديث فأنصت إليه كأني لم أسمعه، ولقد سمعته قبل أن يولد.
وتراه مصغٍ للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به.
أخيراً أيها الحبيب: عند نهاية الحوار اقبل وارض بالحق: حتى وإن أتى من خصمك قال الشافعي رحمه الله: ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجة إلا عظم في عيني، ولا ردها إلا سقط من عيني.
أيها الحبيب: يجب عليك إدراك عدم قطيعة النتائج ونسبية الصواب: وكما قيل: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب.. وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
أيها الحبيب: وليس شرطاً في الحوار أن يتفق الجميع على جميع النقاط.. فإن اتفقوا على بعضها فهذا حسن.. وإلا فقد كسبت تقريب وجهات النظر.. واجتذاب الآخر بالأخلاق والجدال الحسن.. وعرض ما عندك من الحق بأسلوب حسن وطريقة مقبولة.. قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ: العالم يعذر كل من خالفه في المسائل الاجتهادية.. ولا يكلفه أن يوافق فهمه.
نعم أيها الحبيب: نعذر بعضنا في المسائل الاجتهادية.. وندرك الاختلاف الذي وضعه الله في الإفهام والتصورات.. ولا نجبر بعضنا على النظر من منظورنا.. والاقتناع برأينا.. في المسائل الخلافية.

أيها الحبيب: هناك مدرسة تدعى (أو قد فرغت أبا الوليد).. هي نموذج مثالي في كيفية الحوار.. أرسل المشركون المغيرة بن الوليد إلى رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكي يذوده عن اختياره بتبليغ الرسالة ويصرفه إلى قناعة أخرى.. قال يا محمد إني وافد قريش إليك، إن كنت مريضاً طلبنا لك دواء، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا وإن كنت تريد مالاً جمعنا لك من حر مالنا حتى ترضى، وإن كنت تريد النساء زوجناك حسان بناتنا.. وهذا الكلام يبدو في ظاهره مؤدباً ولكنه في العمق هو عين الإقصاء في العمق.. عين الاستهزاء.
كما لو أنه يقول بالعبارة الصريحة: إما أنك وصولي أو انتهازي أو مجنون أو شهواني.. وانظروا إلى هذه العظمة من رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ.. فقد تركه ينتهي ثم قال له بأجمل أسلوب وأرق عبارة: (أو قد فرغت أبا الوليد) قال نعم. قال: فاسمع ثم تلا عليه سورة من القرآن. فرجع الوليد وهو يقول عن القرآن. إن له لحلاوة.. وإن عليه لطلاوة.. وإن أعلاه لمورق وإن أسفله لمغدق.
هذا هو الحوار النبوي وهو رسالة لنا بكيف نتحاور. أيها الأحباب: لننطلق جميعاً لنحاور وزوجاتنا وأبناءنا وبناتنا وإخواننا ومن يخالفنا.. لنقرب الفجوة.. ونسد الخلل.. ونصلح ما فسد من أمر.
لنحاور الآخر كما حاور رسول الله الوليد: بدعوة إلى كلمة سواء وحكمة وموعظة حسنة.. بأسلوب أو قد فرغت أبا الوليد.

إمام وخطيب جامع النخيل الغربي في الرياض

الأكثر قراءة