من يقرأ السوق؟

من يقرأ السوق؟

في الوقت الذي تبدو فيه توجهات السوق النفطية مفتوحة على كل الاتجاهات مع تشابك للعوامل الخاصة بأساسيات العرض والطلب والوضع الجيوسياسي، فإن الوضع يزداد تعقيدا بسبب غياب المعلومات الدقيقة حتى حول أشياء يفترض أن تكون يسيرة ويسهل الوصول إليها مثل حجم الاستهلاك، الأمر الذي يؤثر في أي تحركات لضبط السوق بأي صورة من الصور. وهذا الضعف ليس غائبا عن المتعاملين في السوق سواء على المستوى السياسي الخاص بالدول منتجة أو مستهلكة أو على المستوى التجاري بالنسبة للشركات، لكن اكتسب له قوة أخيرا بسبب الدراسة التي أصدرها أحد الباحثين في "دويتشه بنك".
الدراسة التي أجراها الباحث مايكل لويس خلصت إلى أن التقارير الشهرية التي تصدرها كل من منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك"، الوكالة الدولية للطاقة وإدارة معلومات الطاقة الأمريكية، توضح سجلا لا يمكن الوثوق به، خاصة فيما يتعلق بالتقديرات الدورية لهذه التقارير حول العرض والطلب.
وأشار لويس إلى أنه ومنذ عام 2001، العام الذي اتخذته الدراسة نقطة انطلاق، فإن تقارير هذه الجهات الثلاث، وأي منها لاعب مؤثر بصورة ما في الساحة النفطية، كانت متفائلة جدا في تقديراتها حول قوة الطلب باستثناء عام 2003/2004 وتميز موقف "أوبك" أنه كان أقرب إلى التحفظ.
لكن الوكالات الثلاث كانت أكثر تفاؤلا حول وضع الإمدادات من المنتجين خارج "أوبك". وبصورة عامة يمكن القول إن تلك التقديرات التي كانت متقاربة إلى حد كبير إنما جاءت متفائلة بصورة تتجاوز الواقع وأكثر من اللازم.
ويتضح حجم الفارق عند الاطلاع على التفصيل الذي أوردته الدراسة، إذ تشير إلى أنه ومنذ عام 2002، فإن هامش الخطأ بالنسبة لـ "أوبك" كان في حدود 53.5 في المائة، بينما ترتفع النسبة إلى كل من الوكالة الدولية وإدارة معلومات الطاقة إلى ما بين 70 و75 في المائة. ويفسر الباحث هذا التباين أنه الدافع الرئيس وراء تبني "أوبك" لموقف أكثر تحفظا تجاه زيادة الإنتاج وتأثير ذلك في الأسعار.
ويكتسب عام 2004 أهمية كون الوكالات الثلاث لم تتمكن من تقدير وضع الطلب بصورة جيدة، خاصة من قبل أكبر سوقين للاستهلاك وهما الولايات المتحدة والصين. فبينما كانت إدارة معلومات الطاقة، وهي الذراع الإحصائية للإدارة الأمريكية في هذا المجال، تقدر حجم الطلب في حدود 1.6 مليون برميل يوميا، كان الطلب في واقع الأمر يرتفع إلى 2.5 مليون برميل يوميا، وهذا الوضع عكس ما كان قبل ذلك بثلاث سنوات، إذ توقعت الوكالة زيادة في حدود مليوني برميل، لكن في واقع الأمر لم تتجاوز الزيادة الفعلية 1.3 مليون.
وفيما يخص الإمدادات، فإن تقديرات الوكالات الثلاث بالنسبة للإنتاج من خارج "أوبك" كانت أقرب إلى الواقع وهو في حدود مليون برميل يوميا وذلك خلال الفترة 2001 إلى 2004، لكن العام التالي وهو 2005 كان الأسوأ بالنسبة لهذه التوقعات، حيث هبط النمو في الإنتاج من خارج "أوبك" إلى 400 ألف برميل يوميا فقط، بينما كانت الوكالات تتوقع أكثر ضعف ذلك الرقم بمراحل. وفي هذا الجانب كان هامش الخطأ بالنسبة لإدارة معلومات الطاقة هو الأفضل إذ بلغ 51 في المائة مقابل 63 في المائة للوكالة الدولية للطاقة و72 في المائة لـ (أوبك).
الجديد في كل ذلك التفاصيل، لكن التوجه العام ليس مفاجئا لأي أحد متابع لهذه التقارير، فكل تقرير يقوم بمراجعة تقديراته للشهر السابق صعودا أو هبوطا استنادا إلى المزاج العام للسوق وتوجهه إلى أعلى أو أسفل، ومن النادر أن تنطبق تقديرات شهر مع الذي سبق أو الذي سيلي.
هامش الخطأ هذا ليس تمرينا أكاديميا فقط يتم تصحيحه في التقرير التالي، وإنما له انعكاساته. وفي ذاكرة السوق عموما و"أوبك" تحديدا ما عرف بقرارات جاكرتا الكارثية في 1997، عندما أخطأت "أوبك" في قراءتها للسوق ولم تلتفت للإشارات الواردة حول الأزمة المالية التي بدأت بوادرها في الأسواق الآسيوية. وأدى هذا الخطأ إلى الاستمرار في سياسة رفع السقف، وعليه قررت "أوبك" وقتها رفع السقف بنسبة 10 في المائة، الأمر الذي أدى إلى تدهور سعري استغرق عدة سنوات من جهود المنتجين داخل "أوبك" وخارجها لوقف ذلك التدهور والتحول إلى رفع السعر بعد ذلك لكن بعد خسائر جسيمة.
السوق تمر بمرحلة من التغيرات المتسارعة، فالحديث الذي كان سائدا قبل بضعة أسابيع حول الصدمة النفطية الثالثة وأبعادها وانتهاء عصر النفط الرخيص أفسح المجال إلى حديث حول حالة التقلبات التي يشهدها سعر البرميل وإذا كان الاتجاه التنازلي سيستقر عند 100 دولار أو يتجاوزها إلى أسفل، ودون مرجعية واقعية وعملية يمكن الاستناد إليها.
وربما تكون هذه الساحة الأولى التي يمكن أن يتعاون فيها المنتجون والمستهلكون لتحقيق نتائج تفيد الطرفين.

[email protected]

الأكثر قراءة