التأمين .. بين قرارات "ساما" ولجان فض النزاع
قبل أن أدخل في تفاصيل الموضوع أود أن أبين للقارئ الكريم أنني أتحدث عن "ساما" أو مؤسسة النقد باعتبارها الجهة الإدارية التي أنيط بها الإشراف والرقابة على سوق التأمين في المملكة، بينما لجان فض نزاعات التأمين أتحدث عنها باعتبارها الجهة شبه القضائية التي أنيط بها حسم النزاعات في جزء مهم من قضايا التأمين في المملكة ومنها على وجه الخصوص النظر في الخلافات الناشئة بين شركات التأمين وعملائها. وكل من هاتين الجهتين له صلاحياته وأدواته، فمؤسسة النقد أو "ساما" لها صلاحية اتخاذ الإجراءات وكذلك إصدار القرارات الإدارية اللازمة للإشراف والرقابة وتنظيم سوق التأمين في المملكة، بينما لجان فض منازعات التأمين لها سلطة إصدار القرارات شبه القضائية لحسم النزاعات في التأمين.
وبالرغم من أن قرارات هذه اللجان هي لحسم الخلاف بين المتخاصمين في التأمين، إلا أن الهدف الذي لا يقل أهمية عن ذلك هو ضبط السوق وردع المستهترين بالحقوق الناشئة عن التأمين، خصوصاً أن النظام أعطى صلاحيات واسعة لهذه اللجان وذلك بالنظر في مخالفة التعليمات الرقابية والإشرافية لشركات التأمين وشركات إعادة التأمين ومخالفات مزاولي المهن الحرة.
وكي أصحح معلومة مغلوطة لاحظتها شخصيا لدى العامة بل لاحظتها كذلك لدى كثير من العاملين في سوق التأمين والمهتمين به وهي أنه يتم النظر لـ "ساما" ولجان فض التأمين كجهة واحدة وأن القرارات التي تصدر من هذه اللجان تنسب تلقائيا للمؤسسة رغم استقلالية هذه اللجنة بأعضائها الذين لا يتبعون إداريا لمؤسسة النقد. كما أن قرارات هذه اللجان مستقلة عن قرارات المؤسسة ولا يكون الاعتراض عل هذه القرارات أو نقضها إلا أمام ديوان المظالم.
وكي يتم تقييم الدور الذي قامت به كل من هاتين الجهتين خدمة لسوق التأمين فينبغي علينا تحديد المشكلة الأساسية التي يتعرض لها سوق التأمين في السعودية، ولكي نعرف إفرازات هذه المشكلة كذلك، يجب أن نعود إلى الوراء لنتذكر أن التأمين مر بحقبة تركت انطباعا سيئا لدى الجمهور فيما يتعلق بالحصول على حقوقهم، وذلك نظرا لغياب أو عدم فاعلية الجهات التي تردع المتلاعبين في السوق وتعيد الحقوق لأصحابها آنذاك.
كما أن التأمين كممارسة حديثة هي ممارسة يحيط بها كثير من الغموض وعدم الإدراك خاصة فيما يتعلق بالجوانب القانونية ومن ضمنها بلا شك التحرك القانوني أمام الجهات القضائية المختصة لتحصيل الحقوق الناشئة عن عقد التأمين. هذا إضافة إلى أن التحايل في التأمين مورس من قبل الشركات وبشكل واسع في مجال التأمين على الرخصة، وهذه الشركات تدرك أن المطالبات باسترداد الأقساط نتيجة التغطيات الوهمية قلية جداً نظرا لأن قيمة القسط الذي قدمته بعض شركات التأمين لعملائها متدنية ولا تعبر في حقيقة الأمر عن التزام جدي من قبل الشركة بالتعويض. كما أن أصحاب هذه الشركات يدركون أن أحداً لن يكلف نفسه عناء رفع دعوى من أجل المطالبة بقيمة قسط لا يتجاوز 200 ريال بينما يمثل مجموع هذه الأقساط بالنسبة للشركات مبالغ بعشرات الملايين من الريالات، ولذلك فقد كانت ثقافة التحرك القانوني من قبل الأفراد أمام هذه اللجان شبه معدومة وأصبح دور اللجان مغيباً في هذا المجال.
الإشكالية الأخرى هي أن الجهات المسؤولة عن هذه اللجان لم تقم بأي عمل يذكر لتعريف الناس بحقوقهم تجاه عمليات التحايل هذه أو تحريك دعاوى في الحق العام لمعاقبة المتحايلين والمتلاعبين في سوق التأمين، وللحد كذلك من عمليات في التحايل في السوق. بل إن رد هذه الجهات المسؤولة على رافعي الدعاوى من المطالبين بحقوقهم كان غريباً فقد أفتت هذه الجهات بأنها لا تنظر في القضايا المرفوعة ضد شركات تأمين غير مرخصة بحيث شكلت هذه الفتوى غطاء قانونيا لا تحلم به هذه الشركات.
وبالنسبة لـ "ساما" فلا أحد ينكر جهودها في فرض الرقابة على شركات التأمين سواء المرخصة منها أو غير المرخصة، وقد بذلت المؤسسة جهوداً ملموسة في تنظيم عمليات خروج الشركات غير المرخصة من السوق، ولولا طموح بعض من هذه الشركات في الحصول على ترخيص وقيام المؤسسة بإجبار هذه الشركات على تسوية وإغلاق ملفاتها السوداء تجاه عملائها لحصلت كارثة لا يعلمها إلا الله.
ولكن "ساما" تعاملت مع حقوق العملاء بذكاء واستخدمت سياسة العصا والجزرة تجاه هذه الشركات مما خفف حجم الكارثة التي ستحصل. أما بالنسبة لقضاء التأمين ممثلاً بلجان الفصل في منازعات التأمين والجهة المسؤولة عنه فقد كانوا غائبين عن الساحة لكثير من الوقت ولم تكن لديهم صورة كاملة عن السوق بل كان انشغالهم في مسائل وأمور شكلية لا تستقيم مع الدور المطلوب من هذه الجهة أو تلك اللجان، حتى أنني وصلت إلى مرحلة الشك في أن القائمين على هذه اللجان يدركون الأهداف التي صدر من أجلها نظام مراقبة شركات التأمين التعاوني والأوضاع السائدة في سوق التأمين، وهذا الأمر يستشف جليا من طريقة عمل هذه اللجان والقرارات التي صدرت عنها، ولذلك فمؤسسة النقد أحسنت صنعاً حينما اعتمدت على جهودها الذاتية والإدارية في ضبط السوق ولم يكن هناك مقتضى للحصول من هذه اللجان على قرارات تتعلق بمخالفة التعليمات الرقابية والإشرافية، فقرارات "ساما" كانت أقوى وأبلغ تأثيرا في تلك الشركات وأكثر تحقيقا لمصلحة العملاء من قرارات هذه اللجان، مع أن هذه الأخيرة تعمل وفق فلسفة قضاء التأمين وهيبته. للحديث بقية.