عودة الكرملين النفطية

عودة الكرملين النفطية

تبدو شركة "بي. بي" المتضرر الأول مما جرى ويجري بين روسيا وجورجيا، فقد اضطرت إلى إغلاق معبرين يحملان النفط الذي تنتجه من منطقة بحر قزوين المغلقة ويمر عبر أراضي جورجيا إلى الأسواق العالمية من خلال المنفذ التركي.
لكن الأسواق لم تنفعل بهذا التطور، وذلك بسبب المتغيرات التي طالت وضعية العرض والطلب، إذ تتجه السوق إلى الاسترخاء بسبب عوامل عديدة على رأسها أن الأسعار العالية بدأت تفعل فعلها على الساحة الأمريكية تحديدا، كما أن انشغال الصين بالأولمبياد دفعها إلى إغلاق العديد من المنشآت التي تستخدم الوقود الأحفوري وتطلق بالتالي غازات تسهم في تلويث البيئة. هذا إلى جانب أن بعض مشاريع التوسعة التي قاربت الاكتمال والأخرى على الطريق أدت إلى تحسين في وضع الطاقة الإنتاجية الفائضة، ما أبعد إلى حد ما شبح الخوف من حدوث انقطاع في الإمدادات لا يمكن التعويض عنه. وأدت هذه التطورات إلى أن تنعكس على سعر البرميل فلم يتعرض إلى ما كان يحدث في الآونة الأخيرة، إذ إن أحداثا مثل هذه كانت كفيلة بإضافة بضعة دولارات إلى السعر.
لكن رغم ذلك يظل لما جرى تأثيراته الاستراتيجية البعيدة الأمد على مستوى العلاقات الدولية والمكانة التي ستحتلها روسيا من الآن وصاعدا لاعبا مؤثرا، وهو تطور لعب الوقود الأحفوري فيه من نفط وغاز الدور الرئيس. فليس سرا أن فلاديمير بوتين الزعيم الروسي يعتبر انهيار الاتحاد السوفياتي أكبر كارثة شهدها القرن العشرين. ولم يقتصر الأمر على انهيار هيمنة وسلطة الكرملين على تلك البقعة من العالم فقط، وإنما شعر بوتين بالمهانة بسبب الحصار وخطط الغرب التوسع عبر حلف الأطلنطي في حديقته الخلفية وضم دول مجاورة كانت في السابق إما ضمن الاتحاد السوفياتي مثل جورجيا وإما من أعضاء منظومة دول شرق أوروبا التي كانت في إطار حلف وارسو، هذا إلى جانب الدرع الصاروخي الذي تعتزم الولايات المتحدة بناءه ولم تر فيه روسيا إلا عملية لتعزيز حصارها وتهديدا أمنيا مباشرا.
وعندما تولى بوتين رئاسة الوزارة إبان عهد الرئيس بوريس يلتسن سعى جهده إلى تغيير الموازين، وكان سلاحه الأساسي في ذلك النفط والغاز. فعمل على إحكام سيطرة جهاز الدولة والكرملين تحديدا على مفاصل تلك الصناعة، واستخدم شركة يوكوس لإرسال رسالة توضح بجلاء أين توجد السلطة الحقيقية في البلاد. وعبر تفكيك تلك الشركة وضمها تحت جناح السيطرة الحكومية عزز من القبضة الحكومية على الصناعة النفطية في البلاد، كما قام بتقليص الوجود الأجنبي وجعل اليد العليا للشركات الروسية في أي مشروع مشترك.
بل ذهب خطوة أخرى واستغل حدوث خلاف على أسعار الغاز مع أوكرانيا ليقطع الإمدادات التي تغطي نسبة كبيرة من احتياجات أوروبا الغربية وفي وقت حرج هو فصل الشتاء، ليرسل رسالة أخرى على أهمية الإمدادات الروسية لتدفئة بعض الأقطار الأوروبية وتشغيل مصانعها.
وساعد في كل هذا أن أسعار النفط والغاز ظلت في حالة ارتفاع مستمر على مدى ست سنوات متصلة، الأمر الذي دعم الخزينة الروسية بعائدات من ثاني أكبر مصدر للنفط في العالم بعد السعودية، الأمر الذي هيأ الفرصة لنقل خطط وأحلام بوتين في استعادة مجد الكرملين إلى أرض الواقع.
ورغم تعاطف الكثيرين مع جورجيا، إلا أن هناك اتفاقا أن قيادتها السياسية أخطأت التقدير، كما أخطأ الغرب بقيادة الولايات المتحدة التقدير كذلك في المدى الذي يمكن لجورجيا بتطلعاتها الغربية يمكن أن تصل إليه لتصبح جزءا من المنظومة الغربية على كل المستويات بما فيها العسكرية، ودون وضع للاعتبار لحسابات الجغرافيا التي تعني في هذه الحالة روسيا وانتظارها لاستغلال أي فرصة لتسديد ضربة وإرسال رسالة.
وعندما استغل بوتين التحرك الجورجي في أوسيتيا الجنوبية برد فعل قوي واستخدام مفرط للقوة، فإن الرسالة كانت تتجاوز خلافات موسكو وتبليسي التقليدية لإرسال رسالة واضحة إلى الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة عن بزوغ عهد جديد وطي صفحة الاستهانة بموسكو وحكام الكرملين. ويبدو أن الرسالة وصلت بدليل رد الفعل الضعيف الذي تبنته واشنطن وعدم مقدرتها فعل شيء على الأرض عدا الإسهام بنقل الجنود الجورجيين من العراق إلى بلادهم على طائراتها، وهي خطوة ضررها أكثر من نفعها، لأنها تعتبر في نظر موسكو مشاركة مباشرة في العمل الحربي، لكن ليست لها ثمرة يمكن قطافها.
عقب الحرب العالمية الأولى قال المندوب السامي البريطاني لدى الهند لورد كدلستون إن الحلفاء سبحوا إلى النصر عبر أمواج من النفط. وها هو بوتين يسبح في اتجاه استعادة مكانة الكرملين على الساحة السياسية الدولية عبر النفط والغاز كذلك.

[email protected]

الأكثر قراءة