رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الدَّين حل وليس مشكلة

لا أقسى من الديون إلا وصف صاحبها، فهو مكبل بالديون الملقاة على كاهليه، متعثر بسببها، مجمد الإمكانات ومقيد التحركات، تمتص دخله بنود لم يعد يستفيد منها وترتطم بواقعه أشياء لم يعد يمتلكها. وهذا في الحقيقة سبب من أسباب اليأس المصاحب للديون وقلة الحيلة التي تصيب الواقعين في حبائلها، إذ إنها تفهم كحل سلبي للمضطر ووسيلة شيطانية، يدعو الناس بعضهم بعضا إلى الفكاك منها في أقرب فرصة تتاح لهم.
الديون ليست أمرا طارئا حديثا، فالرسول - عليه الصلاة والسلام - استعاذ من "غلبة الدين" قبل 1400 سنة، واليوم تطورت في عروضها واحتياج الناس لها بطرق أكثر خبثا وذكاء. من الجيد ملاحظة أن ما تعوذ منه الرسول - عليه الصلاة والسلام - ليس الدين في حد ذاته، لكن غلبة الدين؛ يقول ابن باز - رحمه الله - مفسرا لمعنى الدعاء الشهير "يعني ثقل الدين وعجزه عن تسديده.. الدين إذا عجز عنه يشغل فكره كثيرا ويهمه كثيرا وربما أتعبه أهله أيضا، أهل الدين بالمطالبات والخصومات، وهم لا يعرفون عجزه وحقيقة أمره".
لكن إذا دعونا الجميع إلى التخلص من الديون، هل نكون قد وصلنا إلى حل منطقي وعملي؟ كلا، هو حل شبه مستحيل وغير عقلاني، فلا يوجد مجتمع تمكن من النهوض بلا استدانة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال دعوة أحدهم إلى التخلص من الديون في وقت سريع وبطريقة سلسة بدون تحليل كاف وخطوات نفسية وعملية كبرى. أعتقد أن من ينصح الناس بالتخلص من الديون ويدعوهم إلى العيش بلا اقتراض ويشجعهم على حياة خالية من الديون بالكامل يجني عليهم ويفوت عليهم الكثير من فرص النمو والتحرر المالي وربما أسقطهم في حفر جديدة من الوهم. المشكلة الأكبر في موضوع الديون ليست سوء استخدامها أو كثرة الاعتماد عليها فقط إنما أنها محبطة بشكل استثنائي، خصوصا بعد زوال قيمة ما حصلنا عليه بها واستمرار السداد بعد ذلك لفترة أطول. إذا تراكم هذا الأثر وتعاظم تصبح الديون مثل الثقوب السوداء، تدمر الحالة المالية والنفسية والحياتية وتلتهم فرص التحسن المالي بشكل سريع ومدمر.
من يشعر بالتورط بسبب الدين يعش أزمتين، أزمة التأثر بالدين وأزمة الإحساس بمشكلة الدين، ولكل منهما آثار وتبعات. أما الدين فهو إما مصدر للثراء أو مخرج للثروة، وسيأتي الحديث حول هذا. أما الإحساس بمشكلة الدين فهو مشكلة فعلية يصاحبها القلق والعجز، وكلما استمرت قلت الخيارات في أفق صاحبها وخفتت عزيمته إلى أن يدب اليأس في حياته المالية، فتصبح فرصة تصحيح السلوك أضعف وأضعف. الإحساس بمشكلة الدين أمر إيجابي لكن المبالغة فيه من الوهم الساري في عقول المقترضين، وبسبب اليأس والإحباط تصبح فرصة تثقيفهم ماليا أصعب وربما فقدوا حافز التعلم وتصحيح الوضع من جديد، وهذا تحد كبير على من يتبنى المساهمة في التوعية المالية ويتعامل مع مثل هذه الحالات.
يقسم مختصو التوعية المالية الديون إلى ديون سلبية وديون إيجابية، ديون تمثل المشكلات وديون تمثل الحلول، والتفريق بينهما والاختيار منهما أمر يخص الفرد فقط. هناك من هؤلاء المختصين، مثل ديف رامسي، من يمقت استخدام الديون بالكلية ويدعو إلى سدادها والتخلص منها، وهناك من يذكر كلاما مقاربا لكن يراها أداة فعالة للاستثمار المفيد، مثل روبرت كاوساكي. خلاصة الأمر، الديون الجيدة والسيئة مجرد مقاربة للتوضيح، والاقتراض قد يكون أمرا ضروريا في كثير من حالات التخطيط المالي الفردي، كل شخص حسب أهدافه وحالته المالية. كلما تعقدت طرق الحياة ازدادت الحاجة إلى الاستفادة من الحلول التمويلية بشتى أشكالها، وازدادت في نفس الوقت احتمالية الوقوع في مصائد الديون. هي نعمة لمن يخطط لها بشكل جيد ونقمة لمن يسيء استخدامها.
هناك مجموعة من القواعد التي ترتبط بما يجب تفاديه، مثل تجنب الاقتراض لأسباب استهلاكية غير ضرورية، الاقتراض بتكلفة عالية، الاقتراض بشكل مبالغ فيه زمنيا يطيل مدد السداد لفترات غير مخطط لها، مثل الاستمرار في سداد العقار أثناء فترة التقاعد، والاقتراض بتكلفة جائرة، والاقتراض المتعدد المتنوع الذي يحرق الدخل مبعثرا تفاصيله في سداد بطائق الائتمان والقرض الشخصي وقرض السيارة والسكني في نفس الوقت، أي استخدام جميع الحلول التمويلية بدون أولويات واضحة وبشراهة شديدة.
لا بد من وجود خطة للتخلص من الديون السيئة، وحلول ذلك متنوعة لكنها إجمالا تنحصر في: حصر الديون، تصنيفها حسب الأولوية، دمجها وإعادة جدولتها، تكبد شيء من التكلفة الحقيقية - الجهد أو التنازل عن مكتسبات مؤقتة – للتخلص منها بالكامل. يدخل ضمن الحل الأخير زيادة الدخل بجهد إضافي. وبعد ترتيب الوضع المالي لا بد من خطة أخرى للاندماج في اقتراض إيجابي مفيد "إذا تم استنتاج ذلك كضرورة بعد دراسة الوضع المادي الشخصي"، وهذا يعني أن تكون تكلفة القرض أقل من فائدته التي تكون إما عائدا لاستثمار أو إلغاء لمصروف دائم كالإيجار. كذلك، ينبغي للقرض أن يزيد من فرص الادخار ولا يلغيها، وأن يحسن السلوك الاستهلاكي ولا يفسده. وهذا يعني أن يكون القرض نتيجة لتقييم جيد ويخضع لإدارة جيدة، بعيدا عن الجهل والتجاهل وتفاديا للسيئ من المشاعر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي