الحقوق الإنسانية المعاصرة خلل في المضمون وفي التطبيق

الحقوق الإنسانية المعاصرة خلل في المضمون وفي التطبيق

من سمات الحقوق والواجبات في الشريعة الإسلامية التي يهتدي إليها من درسها دراسة موضوعية متجردة أنها تطبيق عملي، وليست من قبيل الشعارات والفلسفات التي لا محل لها في الواقع والتطبيق.
ذلك أن إقرار المبادئ والقيم، والمناداة بالشعارات والفلسفات أمرٌ سهل وقد يدعيه الظالم الباغي، ومن أمثلته ادعاء الطاغية فرعون أنه يريد الإصلاح وأنه يخشى من موسى ـ عليه السلام ـ أن يفسد حياة الناس، كما أخبر الله في القرآن العظيم: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) غافر:26.
إن المهم في أي مبدأ أو قيمة كريمة هو التطبيق والعمل، ولذا قال أحد العلماء: من السهل أن تضع ألفَ نظرية، ولكن من الصعوبة أن تحوِّل نظرية واحدةً إلى تطبيق.
لذلك كانت الأحكام والتشريعات عامةً وحقوق الإنسان خاصةً مفتقرةً إلى مؤيداتٍ لتطبيقها والالتزام بها، وترجمتها إلى الواقع، كما يتوقف نجاحها على الضمانات التي تصونها وتحافظ عليها، ولهذا كانت اتفاقيات حقوق الإنسان المعاصرة، وإن احتوت على الروح الإنسانية، إلا أنها اقتصرت على الجوانب الأدبية والحث المعنوي على تطبيقها، وافتقرت إلى الوازع الذاتي للعمل بها في كثير من الأحيان، بل تم الاتجاه بها للمزايدات والابتزاز من قبل أطراف امتلكت زمام القوى المادية عسكرية كانت أم اقتصادية.
ولأجل ذلك بقي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) عام 1948 حبراً على ورق، جراء ما يشهده العالم أجمع من أنواع الإخلال الصارخ والانتهاك الفادح لحقوق الإنسان في طول العالم وعرضه، وعلى مشهدٍ وتواطؤ، بل وعلى أيدي بعض من وقَّعوا على ذلك الإعلان العالمي، كما نشهده منذ سنين في البلاد المحتلة، وإنما كان ذلك بسبب افتقاد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان آليات التطبيق المستمدة من الحق المبين، وغياب مسوغات التنفيذ القائم على العدل.
وهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة حلقة من الحلقات المتتابعة التي حاول فيها المجتمع الإنساني الوصول إلى ما يحمي الإنسان من ظلم أخيه الإنسان.
وحيث إن المجتمع الغربي هو الآخذ اليوم بزمام كثير من التوجهات الدولية ناسباً إياها إلى شعارات متعددة كالديموقراطية أو الحرية أو غيرهما، فينبغي أن يؤكد في هذا المقام أن الإسلام هو أول من قرر المبادئ الخاصة بحقوق الإنسان في أكمل صورة وأوسع نطاق، وأن الأمة الإسلامية في عهد الرسول, صلى الله عليه وسلم, والخلفاء الراشدين من بعده كانت أسبق الأمم في السير عليها.
بل إن الثقافة الإسلامية وما تنبني عليه من نظرة شمولية للإنسان تتناسب والتكريم الإلهي امتدت بطيفها الإيجابي إلى الأمم الأخرى، فقلمت أظفار الكهنة وأبطلت صكوك الغفران وهذبت تقاليد الرهبنة وكسرت احتكار التفاسير الإنجيلية التي وضعت الأغلال والآصار على الفكر الإنساني.
إن هذه الحريات لم تعرفها أوروبا إلا على أضواء الثقافة الإسلامية في العصور الوسطى، حيث أيقنت أن ما حفل به الإسلام من حريات وما شرعه من عدالة، وما ضمنه للجماهير من كرامة، هو المنهج الحق الذي لا يسع أي عاقل إلا اختياره والرضا به، وعبر هذا المنهج إلى أوروبا، وظل يحرك الحياة الأوروبية حتى انفجرت في ثورات التحرر تهتف بمبادئ ما كانت معروفة في أرضها خلال القرون الماضية، وليصدق عليهم إلى حد ما قول عمرو بن العاص رضي الله عنه: إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك. رواه مسلم في صحيحه.
ولكن هذه المبادئ الأممية التي يَنادى بها اليوم تحت شعارات واتفاقيات دولية، كما في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكما في اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وكما في اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، وبما جاء فيها من الجوانب الإيجابية العديدة، إلا أنها ما زالت قاصرة في مضمونها وفي تطبيقاتها، جراء ما اشتملت عليه من مبادئ مخالفة للفطرة في بعض فصولها وفقراتها، ولما في تنفيذها من أنواع المحاباة التي لا تخفى في عالم اليوم.
وإن البشرية اليوم بما ينطوي عليه واقعها من الآلام المتنوعة والحسرات المتتابعة لفي أمس الحاجة إلى الهدي النبوي العظيم: هدي محمد خاتم رسل الله عليه الصلاة والسلام، حتى تخرج من مضايقها ونكباتها.
وهذا ما صرح به كثير من المنصفين أو دعوا لإتاحة المجال لتفهمه في المجتمعات الغربية.
وكان من آخر ذلك ما صدر عن روان وليامز كبير أساقفة كنيسة كانتربري (الكنيسة الإنجليكانية البريطانية) في تصريح لهيئة الإذاعة البريطانية يوم الخميس 7-2-2008 حول تطبيق بعض جوانب الشريعة الإسلامية في بريطانيا.
وكذلك ما صدر عن المفكر الألماني ديتريش ريتز الباحث في مركز برلين للدراسات الشرقية في لقاء له مع مجلة "دير شبيجل" الألمانية، ونشرته السبت 19-4-2008، ومما ذكره في هذه المقابلة قوله: إن "الإسلام أسهم في تشكيل الهوية الأوروبية منذ بداية العصور الوسطى، وتواجد في إسبانيا لقرون طويلة، كما أنه نما من نفس الجذور التاريخية والثقافية في شرق البحر المتوسط كالديانتين المسيحية واليهودية". وقال أيضا: "الصور السلبية عن الإسلام بعيدة عن حقيقته، بل هي نتيجة لمشكلات سياسية وأوضاع اجتماعية يعانيها المسلمون".
وكذلك ما صدر عن كبير قضاة بريطانيا، اللورد نيكولاس فيليبس في مقابلة له مع صحيفة "ذا جارديان" في الرابع من تموز (يوليو) 2008. وصرح بأنه يرغب في تطبيق الشريعة الإسلامية جزئيا.
ومهما يكن من أمر فلن تزال البشرية حائرة شقية ما دامت بعيدة عن المنهج الذي ارتضاه لعباده إذ قال سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) المائدة:3.

[email protected]

الأكثر قراءة