كفر ناحوم .. أطفال شوارع بيروت على شاشة «كان»
امتطى عربته المؤلفة من لوح خشبي وإطارات صغيرة أشبه بتلك التي تجر عربة الأطفال، وسار باتجاه منزل في آخر شارع شعبي، يحمل جرة الغاز وينظر في الأرض، يجول بعينيه البنيتين بين الفينة والأخرى، يمينا وشمالا، كأنه ينقب عن شيء فقده، وفي النهاية كان ينتظر حافلة المدرسة، التي تقل أطفالا من عمره نفسه كل يوم قبيل الظهيرة، إنه الطفل زين الرافعي ابن الـ13 من عمره، الذي يحلم أن يلتحق بالمدرسة ويحصل على حقه في التعليم كباقي الأطفال.
قضية زين الرافعي ما هي إلا نموذج عن مئات الأطفال الذين فقدوا حقهم في الطفولة ويعيشون على الطرقات، يفترشون الأرصفة ويلتحفون السماء، يعملون مع بزوغ الفجر، ويتحملون المشقة من أجل لقمة العيش، وهذه الحالة دفعت بالمخرجة اللبنانية نادين لبكي إلى إخراج فيلم "كفر ناحوم"، الذي فاز في جائزة التحكيم في مهرجان "كان" الـ71.
قضايا متعددة
ولم تسلط لبكي في فيلمها الضوء على الطفولة المعذبة فقط، بل جمعت عدة قضايا في شريط واحد، فتطرقت إلى قضية اللاجئين السوريين، العاملات في المنازل المهضومة حقوقهن، زواج القاصرات، الاتجار بالبشر وبيع الأطفال.. فجاء الفيلم مزيجا من القضايا الإنسانية التي تستحق الوقوف عندها ومحاولة حلها.
وبدأت القصة في حي شعبي، حيث المباني متلاصقة وحالتها سيئة، بين جدران إحدى الشقق تعيش عائلة مكونة من سبعة أفراد، الأب والأم وخمسة أطفال ينامون في غرفة لا تتعدى مساحتها المتر، يتسولون نهارا أو يبيعون بعض العصائر ليشتروا في نهاية اليوم طعامهم، إلا أن الطفل زين لم يرضَ عن هذه المعيشة، فكان دائما يطمح إلى الهروب والالتحاق بالمدرسة، لكنه غير مدرج في السجل الرسمي للدولة. وإلى جانب بيعه العصائر، كان زين يعمل لدى الشاب أسعد، الذي يملك محلا تجاريا صغيرا لبيع الدواجن في ذات الحي.
زواج شقيقته
وتتفاقم مأساته حين أقدما والداه، ودون أدنى شعور بالذنب على تزويج شقيقته سحر، ابنة الـ11 عاما من أسعد، فعاش زين في صدمة للحظات خاصة أن "سحر" كانت الأقرب إلى قلبه. وقرر بعدها الهروب من عائلته.
على الرغم من بلاغة القصص التي يتضمنها الفيلم، إلا أنه يُؤخذ على كاتب الفيلم الضعف في إعداد السيناريو الذي عمل على كتابته كل من جهاد حجيلي، وميشيل كسرواني، ونادين لبكي بالتعاون مع جورج خباز، وحاول هذا الرباعي حبك القصة بطريقة تشد المشاهد، فاعتمدوا في بعض الأحيان على العبارات البذيئة، لكن في نهاية الأمر الفيلم عبارة عن مجموعة صور أو مشاهد متداخلة ومترابطة وليس مجرد حوار، فالصورة دائما أبلغ من الكلام، فالمشاهد في الفيلم تنطق بالمعاناة المطروحة، وهو نص بصري نجحت فيه لبكي في تحريك مشاعر المشاهد، فكانت تؤرجحه ما بين لحظات الذروة، ثم سرعان ما تعطيه جرعة مهدئة إلى أن انتهى الفيلم بعد 180 دقيقة.
مشهد مؤثر
ومن أكثر المشاهد تأثيرا كان مشهد زواج سحر الفتاة القاصر من أسعد بطريقة جدا مؤثرة، حيث جهزت لها والدتها أغراضها في حقيبة صغيرة، وأمسكت بيدها وحاولت غصبها بالقوة للذهاب إلى منزل زوجها، على وقع صراخ طفلة تساق لتذبح براءة طفولتها على فراش الزوجية، صراخها يصدح في الآذان وهي ترتمي على الأرض بحثا عن حضن أُمٍ مفقود وعطف قلب أبٍ أثلجه الصقيع، فلم تجد غير الارتماء على الأرض تعبيرا عن رفضها لهذا الزواج، بعد أن باءت كل محاولات شقيقها زين بالفشل، حيث لم تسعفه طفولته في تخليص شقيقته من براثن جهل والدتها، وبالرغم من هزالة جسمه وصغره، إلا أنه لم يستسلم بسهولة، واستمر في محاولاته لكن عبثا، ولا سيما بعد أن تدخل والده كوحش مفترس، حمل ابنته سحر على أكتافه كأنه ممسكا بطريدته، وهي تصرخ، ولم تسعفها دموعها لتحاشي مصيرها المجهول والمعلوم سلفا، فاستسلم لقدر أهلها واستكانت على متن دراجته النارية ليزفها إلى زوجها.
العمالة المنزلية
بعد ما حصل مع "سحر" استقل زين الحافلة هربا من والديه إلى منطقة أخرى، وأخذ يصارع وحيدا في تلك الحياة، ذهب إلى أحد الملاهي عله يجد عملا لكنه فشل فعاد أدراجه إلى الأرصفة والأزقة، إلى أن التقى بسيدة إثيوبية تدعى "رحيل".
ومع بروز رحيل في الفيلم تبدأ المخرجة في تسليط الضوء على قضايا العمالة الإثيوبية في لبنان ومآسيهن من خلال قصتها الحزينة. رحيل لديها طفل غير شرعي، تخبئه في عربة للأطفال داخل حمامات الملاهي، وبين الفينة والأخرى تطمئن عنه وتطعمه، وعندما اقترب منها زين ليسأل عن بعض الأكل نظرت إليه بإمعان وأخذته معها إلى منزلها.
الاتجار بالبشر
رحيل كانت يائسة ولا مكان لطفلها غير الشرعي في المجتمع، كما أنها لا تحمل أي إقامة وتحتاج إلى مبلغ معين كي تزور أوراقا لعاملة أخرى وتنتحل شخصيتها، كان يساعدها على هذه المهمة رجل يدعى اسبرو، عرض عليها بيع طفلها مقابل حصولها على أوراق ثبوتية، لكنها رفضت وأصرت على الاحتفاظ به، وأخذت زين ليعيش معها ويهتم بالطفل أثناء غيابها، لكن في يوم من الأيام ألقت الشرطة القبض عليها وتم سجنها، وأصبح طفلها مشردا مثله مثل زين.
نهاية من دون حلول
وبعد فترة مؤلمة عاشها زين في الشوارع مع طفل رحيل، قرر بيع الطفل والعودة إلى دياره، لكن تلك العودة كانت قاسية فاكتشف أن شقيقته سحر قد توفيت في نزيف حاد أثناء حملها، فحمل السكين في مشهد مؤثر وذهب لينتقم من زوجها أسعد. وفي النهاية يدخل زين السجن ويلتقي برحيل التي بدأت تصرخ من خلف القضبان لتسأل عن ابنها، في حين والد زين يتعرض للمحاكمة.
لقد اتبعت "لبكي" في هذا الفيلم أسلوب الطرح من دون البحث عن حلول، فكانت تعطي صورة عن القضايا التي تضمنها الفيلم وتصور حجم المعاناة لكنها لم تطرح أي حل لا من قريب ولا من بعيد، وانتهت برفع زين دعوى على والده لأنه أنجبه إلى هذه الحياة.
أطفال ليسوا ممثلين
إن الأشخاص الذين شاركوا في هذا الفيلم ليسوا بممثلين حقيقيين، بل عكسوا واقعهم الأليم، واستطاعوا إيصال رسالة إلى العالم، حيث يوجد أحزمة بؤس وأشخاص مهمشون، واستطاعت لبكي أن تظهر للعالم حجم المأساة، كي تتغير نظرة المجتمع إليهم. أما الطفل زين الرافعي، الذي أبدع في أدائه فهو لاجئ سوري في لبنان، من مواليد درعا في جنوب غرب سورية، لجأ مع عائلته إلى لبنان في عام 2012. ولم ينجح هذا الفتى المقيم في بيروت حاليا في التأقلم مع النظام التعليمي اللبناني وبدأ العمل في سن العاشرة في أعمال بسيطة بينها حمال في متجر كبير بما يشبه الدور الذي يؤديه في الفيلم، وقد اكتشفته المخرجة اللبنانية، حينما كان يلعب مع عدد من الأطفال بالشارع، بحسب ما أفادت لبكي في حديثها لإحدى الصحف.
وفي حديثها عن الفيلم قالت لبكي "لا يمكننا إهمال هؤلاء الأطفال الذين يعانون ويكافحون بقدر استطاعتهم في وجه هذه الفوضى التي تفشّت في هذا العالم، هذا فيلم صغير أنجزناه في المنزل، لم يعد في إمكاننا أن ندير ظهرنا إلى مأساة الأطفال المشردين، ولكن لا أعرف ما الحل؟ يجب أن نفكر معا".
يعد "كفر ناحوم" الفيلم الطويل الثالث للمخرجة اللبنانية. وقد بدأت لبكي بالحضور في مهرجان "كان" في عام 2007، بمشاركة فيلمها "كاراميل" ضمن أسبوع المخرجين، وبعد أربع سنوات شاركت بفيلم "هلأ لوين" في مسابقة "نظرة ما" التي تعد أدنى بدرجة واحدة من المسابقة الرسمية للمهرجان، كما أصبحت جزءا من لجنة تحكيم المسابقة في عام 2015.