العنف الأسري ظاهرة تتزايد وسط أجواء أسرية ملبدة بالغيوم
يعتبر العنف الأسري من الظواهر التي بدأت تغزو مجتمعنا، وأصبحت ظاهرة واضحة للعيان، وهذا ساهم إلى حد كبير في تزايدها، وهي تحتاج إلى العمل على إيجاد الحلول لها، وقد أقيمت عدة ملتقيات وندوات وورش عمل لمواجهة هذه الظاهرة، حتى لا تستمر في التصاعد وقد أعدت وزارة الشؤون الاجتماعية عدة دراسات حول هذه الظاهرة، ومن أبرز هذه الدراسات دراسة ميدانية على مستوى المملكة بعنوان "العنف الأسري". وقد كشفت ازدياد حالات العنف ضد أربع فئات هم الأطفال والمسنون والنساء والخادمات، أما خصائص أسر ضحايا العنف الأسري فالإدمان على الكحول والمخدرات، وأهم مظاهر العنف الأسري ضد الضحية، الإهمال للأطفال والمسنين، والنساء العنف النفسي والفئة الرابعة من الضحايا العمالة المنزلية وتتعرض للإيذاء البدني، وأسهم في زيادة العنف بشكل مفجع في مجتمعنا غياب البرامج الوقائية للعنف الأسري واقتصار البرامج على التدخل الطبي فقط. وجهت توصيات الدراسة إلى الحاجة الملحة لوضع برامج احترافية تختص بكل أسرة وهذا بعد دراسة حالة لها وزيارة ميدانية لتقلل من المشكلات التي تعانيها أسر الضحايا، والأهم هو التوعية الشاملة للمجتمع لحفز ضحايا العنف الأسري للإفصاح عن الإيذاء منذ بداية تعرضهم له مما يسهم في حل المشكلة قبل تفاقمها.
وأوصت الدراسة بإنشاء مركز وطني له صفة اعتبارية مستقلة يتبع وزير الشؤون الاجتماعية مهمته متابعة المشكلات التي يواجهها أفراد المجتمع مما له علاقة بنمط العنف الأسري وذلك من خلال التدخل المهني وإجراء البحث والدراسة.
مظاهر سلبية
يؤكد الشيخ الدكتور عبد الرحمن السديس إمام وخطيب المسجد الحرام أن العنف الأسري من أخطر الظواهر التي أذكتها المتغيِّرات في المجتمعات المسلمة، وما جدَّ عليها من مظاهر سلبية، وهو يوشك أن يعصف بالكيان الأسري، ويهدِّد التماسكَ الاجتماعي، كما أن هناك ظواهرُ اجتماعية أخرى مثل عقوق الأبناء وتساهل الآباء، وتقلّصت وظائف الأسرة، وكثُر جنوح الأحداث، وارتفعت نسبُ الطلاق والمشكلات الاجتماعية، وتعدّدت أسباب الجريمة ومظاهر الانحراف والانتحار ووهن كثير من الأواصر، وضعُف التواصل بين الأقارب والأرحام، وسادت القطيعة والجفاء، وحلّت محلَّ الصلة والصفاء، وضعُفت وشائج الأخوة وروابط المودة، وشاعت قيم الأنانية والأحاديَّة بدلَ القيم الإيثارية والجماعية، مما ينذر بإشعال فتيل أزمة اجتماعية خطيرة، يجبُ المبادرة إلى إطفائها والقضاء عليها بإيلاء قضايانا الاجتماعية حقَّها من العناية والرعاية والاهتمام.
ولعل من أخطر القضايا الأسرية أيضا التي لها آثارها السلبية على الأفراد والأسر والمجتمع والأمة، ظاهرة التفكك الأسري والخلل الاجتماعي نتيجة العنف الأسري وضعف التربية، مما ينذر بشؤم خطير وشرّ مستطير، يهدّد كيانَها، ويزعزع أركانَها، ويصدّع بنيانها، ويحدث شروخاً خطيرة في بنائها الحضاري ونظامها الاجتماعي، مما يهدِّد البُنى التحتية لها، ويستأصل شأفتَها، وينذر بهلاكها وفنائها.
ولذلك فإن الترابطَ الأسري والتماسكَ الاجتماعي ميزةٌ كبرى من مزايا شريعتنا الغراء، وخصيصة عظمى من خصائص مجتمعنا المسلم المحافظ الذي لُحمته التواصل، وسُداه التعاون والتكافل تساهم في القضاء على العنف الأسري. ويومَ أن هبت زوابع العصرنة والتحديث على كثير من المجتمعات الإسلامية عاشت مرحلة انتقالية، افتقدت من خلالها ما كان يرفرف على جنباتِها من سلام أسري ووئام اجتماعي، مما أفرز جيلا يعيش على أنماط اجتماعية وافدة، وينحدر إلى مستنقع موبوء ووَحل محموم، من أمراض حضارة العصر التي سرت عدواها إلى بعض المجتمعات الإسلامية، فاجتاحت المثلَ الأخلاقية العليا والقيم الاجتماعية
مجتمع متراحم ومترابط
من جهته قال الشيخ مسعود الغامدي الداعية الإسلامي إن ظاهرة العنف الأسري من الظواهر الوافدة على مجتمعنا التي لم تكن موجودة من قبل، فمجتمعنا كما ذكرت مجتمع متراحم ومترابط والأسرة فيه مترابطة ومتماسكة بفضل الله إلا أنه في السنوات الأخيرة طفت على سطح المجتمع ما يسمى بظاهرة العنف الأسري، التي تمثلت في الاعتداء على الأبناء وقد سمعنا عن حالات أليمة لهذه الظاهرة الوافدة. ولعلي في هذه أدلي بدلوي في هذه الظاهرة المؤلمة التي لها آثارها السلبية في المجتمع وتماسك الأسرة، وتحتاج إلى علاج من أهل الاختصاص وتعاون الجميع، ولعل مما يمكن أن أشير إليه النقاط التالية:
أولا: إن الدين الإسلامي هو دين الرحمة والرأفة والمودة والمحبة والسلام ولعل من أحق الناس بهذه الأمور هم أقرب الناس إليك، ونحن لو تأملنا نصوص الكتاب والسنة لوجدنا الكثير منها يدعو إلى ذلك على وجه العموم، يقول تعالى) فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) ويقول تعالى واصفا نبي الرحمة (بالمؤمنين رؤوف رحيم) ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف لكبيرنا قدره) وقوله صلى الله عليه وسلم (من لا يرحم لا يرحم) إلى غير ذلك من نصوص الشرع المطهر.
ثانيا: هناك نصوص دعت إلى حسن التعامل مع الأهل مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) وقوله (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول). وكذلك لا بد أن تكون هناك توعية مستمرة للأسرة عن طريق المؤسسات التعليمية والخطباء ووسائل الإعلام المختلفة للحيلولة دون استمرار هذه الظاهرة التي انتشرت في أوساط المجتمع، وهناك مسؤولية على جميع الأفراد للعمل على وجود السعادة الأسرية في وسط عائلاتهم والتعامل بالتي هي أحسن وغير ذلك من الوسائل المساعدة على القضاء على هذه الظاهرة.
ويوضح الإخصائي الاجتماعي ناصر الشهري أن أسباب العنف مختلفة من مجتمع إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، وتراوح العوامل المسببة للعنف من مشكلات نفسية واجتماعية واقتصادية، وهي مترابطة ومتداخلة، ولا يمكن تفسير العنف الأسري وضعف الترابط بين أفراد الأسرة الواحدة تفسيرا أحادي العامل، وإنما يرجع إلى عوامل مختلفة تختلف درجة تأثيرها من عامل إلى آخر ".ولا بد من العمل على مساعدة الأسرة في التنشئة الاجتماعية السوية للأبناء من خلال إعداد برامج ونشرات وملصقات، لتوعية الوالدين بالأساليب الصحيحة للتعامل مع الأبناء وبصفة خاصة في مرحلة المراهقة، وأقترح إنشاء مكاتب عديدة يسهل الوصول إليها لتقديم الاستشارات الأسرية، ومساعدة الأسرة على مواجهة مشكلاتها من خلال خبراء واستشاريين.
باحثة اجتماعية
من جانبها قالت باحثة اجتماعية إن هناك تزايدا في عدد محاولات الانتحار بين النساء من 11 إلى 16 حالة شهرياً، الباحثة أجرت بحثها الميداني على الحالات الواردة إلى مستشفى الرياض المركزي والمركز الخيري للإرشاد الاجتماعي. وأكد الاختصاصيون الاجتماعيون في المستشفى أن هناك 96 محاولة انتحار من النساء أدخلت المستشفى بواقع 16 حالة شهرياً.
إذن تنتحر النساء في مجتمعنا وتتزايد النسبة وذلك لشعورهن بالإحباط ولأنهن وجهن عنفهن نحو الذات.
وأضافت أن العنف تجاه الذات لا يقل خطورة عن العنف الموجه تجاه الآخر، فالإحساس بالإحباط الشديد من المحيط الاجتماعي للمرأة، والتفكير السلبي بأن المشكلات لا تحل والطرق مسدودة مع انعدام الأمل معطيات تدفع بعض النساء إلى إنهاء حياتهن.
كما أن الانتحار بين الفتيات ليس مجرد رغبة في الموت، بل هو ترجمة لضعف الوازع الديني حيث لا يشعر المرء يقينا أن الله قادر على تفريج الكرب وإزالة الهم فقط إذا تيقن الإنسان ودعاه بإخلاص. والانتحار مؤشر على اضطراب الشخصية، فليس كل من واجهته مشكلات لجأ إلى الانتحار.
إيجاد الحلول المناسبة
وتقول الإخصائية التربوية فاطمة القرني إن تعرض الزوجة للعنف من قبل زوجها يستوجب منها الوقوف وقفة مع النفس من أجل حسم خياراتها. فإذا رغبت في إنقاذ زواجها فذلك يستوجب منها الجلوس مع زوجها جلسة مصارحة، والعمل معه لإنجاح زواجهما، وهذا يكون بتوافر العوامل التالية:
أ- أن تتوافر لدى الزوج رغبة شديدة في التوقف عن ممارسة العنف، وأن يقتنع بأن العنف أصبح مصدر ضرر له ولعائلته. ب - أن يتوافر لدى الزوجة الرغبة والأمل في إيجاد الحلول المناسبة لمشكلتها. ذلك أن استسلامها للعنف فترة طويلة من الزمن يجعلها تستسلم لقدَرِها وتيأس من وجود طريقٍ يمكن أن يعينها على الخلاص مما هي فيه.
ومن وسائل العلاج المفيدة في مثل هذه الحالة أسلوب الإيحاء الذاتي. وهو يقوم على تغيير طريقة التفكير واستبدال العبارات السلبية بأخرى إيجابية، فيستبدل الزوج فكرة " يجب أن تسمع الزوجة كلامي ", بفكرة " سيزول تأثير عنفي مع زوجتي سريعا بينما الكراهية الناتجة عنه بيننا ستدوم طويلا، "وكذلك تستبدل الزوجة فكرة" إن قاومته سيضربني بشدة " بعبارة "إن واجهته مرة لن يكررها ثانية ". والحل الثاني يستوجب من المرأة خيارا شجاعا وجريئا بطلب الطلاق وإنقاذ نفسها وإنقاذ عائلتها، فصمتها الذي تعده خدمة لأبنائها وحفاظا على أسرتها قد ينقلب عليها وعلى صحة أطفالها النفسية والعقلية، إذ إنه سيجعل الأولاد يتقبلون مع الوقت فكرة الضرب. وقد يبادرون هم أيضا لضرب أمهم أو ضرب زوجاتهم في المستقبل. ويمكن أن تظهر عليهم الأمراض النفسية الخطيرة وعلى رأسها الخوف والقلق وفقدان الإحساس بالأمان.
يحتاج إلى التدخل العاجل
تؤكد الإخصائية النفسية موضي الزهراني أن تعاطي المخدرات من أبرز الأسباب التي تؤدي إلى العنف الأسري، إضافة إلى الأمراض النفسية حيث إن كثيراً من الحالات العنيفة تتمثل في شخص مريض غير مستقر نفسيا ولا يخضع للعلاج السلوكي أو الدوائي فيمارس شتى أنواع الضغوط النفسية على أقرب الناس إليه أو الإيذاء الجسدي ويراه من حقه، وأن من يقع عليه الإيذاء يتقبل هذه الممارسة من دون اعتراض، أيضا اضطراب الشخصية وهذه بينها وبين المرض النفسي خيط رفيع لا يدركه إلا المقربون من الشخص نفسه، كما أن كثيراً من الحالات المعنفة تكون قد مرت بمشكلات أسرية مختلفة في شدتها ولكن لا تتم معالجتها منذ بدايتها، ويتم إهمالها لسنوات طويلة مما يؤدي إلى وصولها مرحلة من الإيذاء الذي يحتاج إلى التدخل العاجل.
وتشير موضي الزهراني إلى أن العنف مهما كان نوعه ودرجته له مخاطر كثيرة على الصحة النفسية والبدنية والعقلية خاصة في المحيط الأسري وما ينتج عنه من شخصيات عدائية وسلبية تشعر بالاضطهاد النفسي الذي قد تكرره مع جيل آخر، ويضيف الدكتور محمد الحربي أن العنف الأسري يؤدي إلى إزهاق وتحطيم الروح المعنوية والنفسية للإنسان المتعرض لهذا السلوك المشين وسلب حقوقه الإنسانية في التعبير بكل حرية عن آرائه، مما يؤدي إلى تنامي شعور الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام لدرجة القتل من الفرد المعنف أو من أحد أفراد أسرته المتعاطف معه، إضافة للآثار الجسدية التي تبقى فترة من الزمن فلا يتم نسيانها بسهولة من ذاكرة الضحية كالحروق والكدمات والكسور وغيرها. ويشير الدكتور مفلح القحطاني إلى أن العنف الأسري ظاهرة خطيرة حيث إنه يحدث في أكثر بيئة يفترض أن تكون هي مصدر الحماية والأمان للفرد، والأسرة هي نواة المجتمع فحالما تتصدع هذه النواة فإن ذلك يؤدي إلى تصدع المجتمع ككل، وبالتالي لا بد من دراسة أسباب العنف الأسري والعمل على معالجتها.