الدول الصناعية تتحمل مسؤولية الأسعار أيضا
لقد أبرزت حرب أكتوبر وما تلاها من الحظر على تصدير النفط إلى الغرب في عام 1973م الهشاشة الدولية أمام نقص الإمدادات البترولية التي تؤثر في المعروض النفطي وأدى بالتالي إلى موجة من ارتفاع للأسعار. ومنذ ذلك الحين والسوق النفطية قائمة على القلق ومخاوف من نقص الإمدادات في كل أزمة عالمية كالثورة الإيرانية 1979م، والحرب العراقية الإيرانية 1980م، وغزو العراق للكويت 1991م، وأحداث الـ 11 من أيلول (سبتمبر) وما تلاها من حروب على أفغانستان ثم الحرب على العراق واحتلاله وتضاعف سعره بنسبة 100 في المائة على إثر الحرب على العراق ووصل في عام 2004م إلى 41 دولارا. واستمرت موجة الصعود في الأسعار التي بدأت على إثر الحرب العراقية مروراً بالأزمة النووية الكورية والإيرانية والحرب الإسرائيلية على لبنان في 2006م ثم الأزمة على الحدود التركية - العراقية والتي كسرت حاجز الـ 90 دولاراً للبرميل في نهاية عام 2007م. ولامس سعر البرميل عتبة الـ 100 دولار في بداية عام 2008م ثم على إثر التهديدات الإسرائيلية بضرب إيران ارتفع سعر النفط. في بورصة نيويورك يوم الجمعة 11 دولارا مرة واحدة وتجاوز للمرة الأولى على الإطلاق 139 دولاراً.
إن انقطاع الإمدادات والعمل على تأمينها لهو هاجس مقلق في الدول الغربية الصناعية مما يدفعها في بعض الأحيان، وبالأخص الولايات المتحدة، إلى محاولة اتخاذ خطوة احترازية تهدف للاطمئنان على تأمين الإمدادات، مما يتولد من تلك الخطوات نفسها سلسلة من ردود أفعال عالمية سلبية تلتهب على إثرها دول منابع النفط بالأزمات الجيوسياسية وممراته مما يترتب عنه من نقص فعلي في الإمدادات أو على الأقل قلق ومخاوف من تهديدات وشيكة للإمدادات.
وفي ظل المخاطر والمخاوف تنتج فجوة كبيرة بين الطلب والعرض لصالح الطلب وتصبح تلك العوامل الجيوسياسية وحتى المناخية الظرفية، عوامل تزيد من الفجوة بين العرض والطلب على النفط وبآثار قد تتفاعل مع العوامل الأساسية ويمتد أثرها إلى المدى المتوسط وحتى البعيد.
فلنأخذ على سبيل المثال النزاع مع العراق ثم احتلاله، فمنذ ما يزيد على أربع سنوات من الغزو والعراق لم يستعد قدرته الإنتاجية السابقة، فصادرات خام كركوك من شمال البلاد متقطعة بسبب أعمال المقاومة وبسبب مشكلات فنية في توقف خط الأنابيب معظم الوقت، كما أن التهاب الوضع على الحدود التركية العراقية يثير قلق ومخاوف من تهديدات وشيكة للإمدادات النفطية العراقية، التي كانت تبلغ في ذروتها الإنتاجية في العام 1979م نحو أربعة ملايين برميل يومياً (3.7 مليون برميل يومياً)، كما أن إنتاجه قد بلغ قبيل غزو الكويت مباشرة في 1990م ما حجمه 3.5 ملايين برميل يومياً، ومنذ تلك الفترة إنهار الإنتاج العراقي للنفط، وبدأ يعمل حثيثاً على استعادة موقعه الإنتاجي بواقع 600 ألف برميل يومياً في العام 1996م. وبعد صدور قرار الأمم المتحدة المتعلق بالنفط مقابل الغذاء، تضاعف إنتاج العراق من النفط ليصل إلى 1.2 مليون برميل يومياً في العام 1997م، ثم ارتفع مجدداً ليصل إلى 2.2 مليون عام 1998م، و2.5 مليون برميل في الأعوام 1999م و2000م، ووصل قبيل الحرب الأمريكية عليه نحو 2.58 مليون برميل يومياً. أما الآن فيصل إنتاج العراق من النفط إلى ما يقارب المليونين برميل يومياً، ولقد بلغ مقدار هذه الصادرات رسمياً حتى الآن مليوني برميل يومياً؛ مقارنة بـ 3.5 مليون برميل يومياً قبل الاجتياح عام 2003. ولن تكون هناك زيادة حقيقية في هذه الكميّة على الأقل في السنوات الثلاث المقبلة. إن الاحتلال العسكري الأمريكي للعراق قد غيّر كثيراً من خريطة النفط العالمية، وعلى الرغم من تأكيد الولايات المتحدة أن هدف غزوها من العراق واحتلاله بداية كانت أسلحة الدمار الشامل، إلا أنه تغير الهدف إلى الإطاحة "بالطاغية" وإحلال "الديمقراطية" فيه، ثم اعترفت أخيرًا بأن النفط هو الدافع وراء ذلك الغزو. فبل الغزو مباشرة كان سعر تداول النفط 30 دولاراً للبرميل الواحد، ومنذ ذلك الحين وأسعار النفط في تزايد مستمر قارب 140 دولارا بعد خمس سنوات من احتلال العراق. كل هذه العوامل مع ظروف أخرى اجتمعت معاً تثير مخاوف حول إمكانية انقطاع إمدادات النفط منها الخطر مما يعرض الإمدادات النفطية للانقطاع. وهذه المخاوف تدفع الدول والمستثمرين إلى شراء المزيد من النفط في السوق المفتوحة من أجل الإضافة إلى الاحتياطي النفطي الاستراتيجي لتلك الدول الصناعية والذي يؤدي إلى زيادة الطلب ويؤدي بالتالي إلى ارتفاع سعر النفط الفوري وفي العقود الآجلة.
إن عدم الاستقرار السياسي في بعض دول أوبك مثل العراق كما ذكرنا وكذلك العلاقة بين إيران وأمريكا بسبب مخاوف وحرص أمريكا على عدم اقتناء إيران أسلحة نووية وبالتالي سيطرة إيران والتحكم في الإمدادات، له تداعيات تؤثر في المعروض النفطي بشكل مقلق، فإيران تعد رابع أكبر مصدر للنفط وتسيطر على المقلب الشمالي الذي يعد أهم معبر نفطي في العالم وهو مضيق هرمز الذي تمر عبره ربع الإمدادات النفطية في العالم، وهذا يثير القلق والمخاوف من تهديدات وشيكة للإمدادات. والدليل على ذلك ما أوضحه عدد من المحللين أن التهديدات التي أطلقها شاؤول موفاز وزير المواصلات الإسرائيلي بضرب إيران قد أسهم في رفع سعر النفط. في بورصة نيويورك 11 دولارا مرة واحدة ليصل إلى نحو 139 دولارا يوم الجمعة. كما أن الاضطرابات السياسية في فنزويلا
يجعل منها غير مستقرة سياسياً وبالتالي تثير القلق من تهديدات بقطع للإمدادات. كما أن النزاعات الداخلية تتسبب في هجمات المسلحين المتكررة على صناعة النفط في أكبر بلد منتج للخام في إفريقيا، وهي نيجيريا ويتسبب في بعض الأحيان في انقطاع في الإمدادات.
الحلول المقترحة: التهدئة
من طبيعة العلاقات الدولية أنها تقوم على العنف والتحدي بشكل عام. فمن واقع حال المجتمعات البشرية والنزاع الأبدي لم يتوقف بين قوى تعد نفسها قوى الخير ضد من تعده قوى الشر. والقوى الكبرى تعتبر أن القوة في طبيعة العلاقات الدولية هي مصدر الحق وأن القوة في حقيقتها تصنع الحق نفسه نظرا لأن المجتمعات - حسب مفهوم القوى الكبرى- تجد في القوة ما يدفعها للخضوع لها. وتأسيساً على تلك المفاهيم الراسخة، فإنه من المستحيل والحال كذلك حتى الأمل أو التفكير في إيقاف الصراعات والحروب الطاحنة بين مجموعة من الكيانات التي تكونت في دول أو إمبراطوريات كبرى والتي منذ أن تبوأت القيادة العالمية على أنقاض الامبراطوريات الأخرى وهي تصبغ نفسها بأنها قوى الخير والإعمار أو كما عرفت نفسها في القرون الماضية بـ "الاستعمار"، وبين ما تبقي بعد انهيار الامبراطوريات من مجتمعات تتكون في دويلات متفككة بدأ منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية إلى انهيار الاتحاد السوفييتي والتي تعد في نظر القوى الكبرى مجتمعات متخلفة بنيوياً وعقائدياً واجتماعيا واقتصاديا.
ومهما كانت المبررات التي يسوقها ذوو النزعات العدوانية والهيمنة الحربية، فإن المؤكد أن معظم الحروب والنزاعات منذ بدء التاريخ القديم إلى تاريخنا الحديث وهي تتمحور حول العامل الاقتصادي أكثر من أي عوامل أخرى في تفسير تاريخ الصراعات الدولية الحديثة وكما كانت حال الإمبراطورية العظمى التي لا تغيب عبنها الشمس وشركاتها الاقتصادية كشركة "الهند الشرقية" التي أدارت دفة الأساطيل البريطانية الحربية ورسمت على أثرها ملامح الخريطة السياسة للعالم كله آنذاك.
ولكن الذي يعنينا الآن هو منذ انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتي وبعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها، برزت أزمات وصراعات هنا وهناك وانعكس ذلك على الاقتصاد وبالتحديد أسعار النفط التي هي مجال مقالنا هذا. وبما أننا نؤمن بأن الصراعات العالمية حتمية وأزلية إلا أننا نرى أن القوى الكبرى - بقيادة الولايات المتحدة - تملك القدرة على تخفيف حدتها وتخفيف حدة العوامل الجيوسياسية السائدة في أنحاء العالم وخصوصاً الصراعات التي تحوم حول منابع - النفط ومضايقه المائية. كما هي الحال مع ليبيا ورئيسها الذي كان يعد العدو اللدود للدول الغربية بما فيها أمريكا، وبدبلوماسية التخويف والترغيب تم قبول دخول الشركات البترولية العالمية للاستثمار في حقول النفط في ليبيا وصار الصديق الحميم الذي لا يستغنى عنه. إن على الدول الصناعية الآن دوراً فاعل على الصعيد العالمي لتخفيض أسعار النفط الخام وخصوصاً في بعض الدول المصدرة للنفط فالنزاع في العراق والملف النووي الإيراني والمشكلات الداخلية في فنزويلا وثوار الدلتا وما يثيرونه من قلاقل في نيجيريا، كلها أزمات بالإمكان الوصول إلى حل وسط مما سيسهم في تأمين ملايين إضافية من النفط تضخ في السوق العالمية مما سيسهم بشكل كبير في تخفيض الأسعار.
*استراتيجي وخبير في شؤون النفط