الطفرة الاقتصادية وأسعار الطاقة
في محاولة لتسليط الضوء على قضية ارتفاع أسعار النفط وأسبابها بالتزامن مع إعلان السعودية رسميا دعوتها وزراء الطاقة في الدول المنتجة لدول "أوبك" والدول المنتجة الرئيسة من خارج "أوبك" ومن ضمنها روسيا الاتحادية, النرويج, المكسيك, والبرازيل, إضافة إلى الدول المستهلكة الرئيسة, وهي: أمريكا, بريطانيا, ألمانيا, فرنسا, اليابان, الصين, الهند, وجنوب إفريقيا وغيرها, إضافة إلى بعض المنظمات الدولية كالأمانة العامة لمنتدى الطاقة ومنظمة أوبك ووكالة الطاقة الدولية والمفوضية الأوروبية للطاقة وشركات البترول العالمية الرئيسة, وذلك إلى المشاركة في اجتماع يعقد في مدينة جدة في الثاني والعشرين من الشهر الحالي لبحث ومناقشة وضع السوق البترولية الدولية وأسباب ارتفاع أسعار النفط الحالي وكيفية تعاون الدول المنتجة والمستهلكة والمنظمات الدولية ذات العلاقة وشركات البترول الرئيسة من أجل التعامل مع هذه الظاهرة التي يؤكد المسؤولون في السعودية أنه ليس لها ما يبررها من حيث المعطيات البترولية وأساسيات السوق.
وهنا نتطرق في سلسلة من المقالات وبشفافية مطلقة إلى بعض التحديات الرئيسة أمام دول العالم الآن من خلال البحث عن ماهية الأسباب الكامنة وراء تلك الارتفاعات وتفنيد الوسائل والمقومات الخاصة بالنفط وإلقاء الضوء على أهم العوامل الأساسية التي تؤثر في اتجاه السوق النفطية وتؤثر في ارتفاع أسعار النفط التي يترتب عليها ارتفاع تكلفة الطاقة, التي بدورها تتسبب في ارتفاع تكاليف الإنتاج الصناعي والزراعي والنقل.. إلخ, وبالتالي ارتفاع المستوى العام. ولقد بدأنا المقال الأول بتسليط الضوء على السبب الرئيس في ارتفاع أسعار النفط من وجهة نظر المنتجين، وفي المقال الثاني ركزنا على السبب الرئيس في ارتفاع أسعار النفط من وجهة النظر العامة للمستهلكين للنفط، أما في هذا المقال والذي سيتلوه من مقالات أخرى فسنلقي الضوء على العوامل المؤثرة في أسعار النفط وتفنيدها بموضوعية تامة ومحاولة التركيز على الحلول الممكنة من أجل التعامل مع هذه الظاهرة أو على أقل تقدير إمكانية التكيف معها وذلك من منطلق حرص السعودية واهتمامها باستقرار السوق النفطية الدولية ومن أجل العمل عالمياً لمواجهة إحدى أهم القضايا العالمية التي تترتب عليها آثار سلبية في الاقتصاد العالمي.
خصوصية العرض والطلب النفطي
من المتعارف عليه أن قوى العرض والطلب في السوق العالمية هي الآلية التي تتجسد فيها العوامل الأساسية التي تؤثر في سعر النفط، وهناك عدة عوامل خاصة تؤثر وتتأثر بقوى العرض والطلب, وبالتالي تتحكم في سعر النفط. فمحدودبة الإنتاج في ظل تنامي اقتصادات آسيا ونقص مستويات المخزونات التجارية من النفط الخام في الدول الصناعية، وضعف وقوة الدولار الذي يسعر به النفط بالنسبة للعملات الأخرى ودخول المستثمرين والمضاربين في تجارة عقود النفط المستقبلية وتفاعل هذه العوامل بعضها مع بعض كلها تدفع بالنفط ليتبوأ دوراً مباشراً في تحريك الأجندة الاقتصادية ومحط أنظار الساسة العالميين وصانعي القرارات الاقتصادية المؤثرة في مسيرة الاقتصاد الدولي. وبتزايد أهمية النفط وتنامي الطلب عليه، تتزايد الصراعات والحروب الدولية وأخرى أهلية وداخلية تلهب الوضع السياسي قرب منابع النفط والتي بدورها تؤثر في الإمدادات وتضغط على المعروض وبالتالي الأسعار. وهناك خليط من العوامل الجيوسياسية، والاقتصادية والمالية والأمنية وكذلك عوامل طبيعية جيولوجية ومناخيه تؤثر في العرض والطلب على البترول وبالتالي الأسعار. فإذا اختل التوازن بين العرض والطلب لصالح أحدهما انخفض أو ارتفع سعر البترول. فنقص المعروض في ظل التوقعات بتزايد الطلب بسبب وجود تلك العوامل العدة أو بعضها وتفاعلها يرفع الطلب على البترول, وبالتالي يرفع سعره. ومع حالة التوتر النسبي للعلاقات بين العرض والطلب بسبب عوامل تتعلق بالمدى القريب والمتوسط والبعيد وفي ظل حجم المعروض من النفط والتوازن الدقيق جداً، بينه وبين الطلب الفعلي للنفط تتأثر السوق البترولية في الوقت الحالي بكثير من العوامل الخارجة عن إرادة المنتجين, ما أدى إلى ارتفاع في أسعار النفط الدولية باستمرار منذ عام 2002, ومنذ بداية العام الحالي إلى الوقت الحاضر, أي في خلال ستة أشهر ارتفع سعر النفط إلى أكثر من 40 في المائة.
الطفرة الاقتصادية والصناعية العالمية ودعم أسعار الطاقة
في ظل المعطيات المتوافرة، من نمو اقتصادي مستمر، وصول الطاقة الإنتاجية إلى مستويات عالية، والتوقعات بزيادة الطلب في المستقبل، على الرغم من أن حجم الإنتاج النفطي العالمي في تزايد، إلا أنه لن يلحق بالتوقعات بحجم الطلب الناتج عن توقعات بعوامل تنتمي للمدى البعيد ويأتي في مقدمتها النمو في اقتصادات الدول التي تشكل اقتصاداتها نسبة كبيرة من الاقتصاد العالمي, خصوصاً معدلات النمو المحققة في الدول المستهلكة الرئيسة كالصين والهند، حيث إن ازدياد الطلب بهذه الوتيرة يصطدم بمحدودية الإنتاج. ويعد هذا العامل من العوامل الأساسية التي تؤثر في زيادة حجم الطلب على النفط، لأنه تراكمي وينتمي تأثيره إلى المدى البعيد، فالطلب العالمي على النفط نتيجة التوسع الاقتصاد العالمي يعد من أحد أهم العوامل الأساسية التي تؤثر في ازدياد الطلب على النفط وبآثار تنتمي إلى المدى البعيد حيث أدت الزيادة في عدد السكان في العالم وتحسن مستوى معيشة معظمهم إلى الزيادة في الاستهلاك بشكل عام والنفط بشكل خاص، ومن غير المعقول أن يتوقع بانخفاض عدد السكان أو تدني مستوى المعيشة، وهو عكس العوامل الظرفية أو ذات المدى القصير التي تؤثر في العرض والطلب على النفط كالنزاعات أو الأعاصير التي ينتهي تأثيرها بتلاشيها. وحسب إحصاءات من الدوائر المعنية فإن الزيادة غير المسبوقة التي طرأت على الطلب العالمي على النفط من مستهلكين جدد كالصين والهند ودول آسيا رفعت الطلب العالمي على النفط إلى 88 مليون برميل يومياً، وسيرتفع إلى أكثر من 100 مليون برميل في غضون سبع سنوات من الآن، بمتوسط نسبة سنوية لا تقل عن 3.3 في المائة. وفي السنوات القليلة الماضية شهد العالم حدوث ما أشارت إليه بعض المنظمات الدولية بأنه أكبر زيادة في الطلب على النفط منذ 16 عاما، وذلك بسبب توسع الاقتصاد العالمي ما تسبب في زيادة الاستهلاك للنفط.
إن زيادة الطلب من دول مثل الصين الذي بلغ استهلاكها الآن أكثر من سبعة ملايين برميل يومياً، والهند الذي ارتفع استهلاكها إلى ما يقارب ثلاثة ملايين برميل يوميا والبرازيل ودول آسيا وكذلك دول الشرق الأوسط, إضافة إلى الاستهلاك المفرط في الولايات المتحدة, والذي قارب 21 مليون برميل يوميا, كل هذه الارتفاعات في الاستهلاك بهذه الوتيرة تعد أحد أهم المحركات الرئيسة للارتفاعات الراهنة في الطلب على النفط. فالولايات المتحدة تستهلك قرابة ربع الاستهلاك العالمي للنفط، بينما يتناقص إنتاجها ووصل إلى ما دون 9 في المائة من الإنتاج العالمي للنفط، واحتياطياتها في الوقت الحالي لا تتعدى 2 في المائة من الاحتياطيات العالمية للنفط. ويعتمد أكثر من 96 في المائة من نظام النقل الأمريكي على النفط، والحاجة إلى نفط يمكن تكريره واستخراج البنزين منه من أجل تلبية الاستهلاك المتنامي في الولايات المتحدة في تصاعد حيث يشكل الطلب على البنزين نحو نصف متوسط الاستهلاك الأمريكي اليومي البالغ 21 مليون برميل من النفط.
فالطلب على النفط في حالة تصاعد مستمر, خصوصاً من الصين, التي تبوأت الآن ثاني أكبر مستورد للنفط بعد أمريكا. فالصين تشهد انتعاشا اقتصادياً سريعاً ومستمرا ترتب عليه استهلاك غير مشهود في النفط، وأصبحت من أكبر مستوردي النفط بعدما كان لها اكتفاء ذاتي منه قبل عشر سنوات. وفي خلال السنوات العشر الماضية تضاعفت حاجة الصين إلى البترول بأكثر من 100 في المائة ويزداد استهلاكها للنفط بمعدل يزيد على 7 في المائة في السنة. وحسب التقارير العالمية أن هذا العملاق الآسيوي، الصين، سيعتمد على النفط بنسبة 50 في المائة لتوفير مصادر الطاقة وإذا استمر الاستهلاك بهذه الوتيرة فإن الصين ستتجاوز الولايات المتحدة لتصبح أكبر مستهلك للطاقة في العالم بعد عام 2010. كما أن الطفرة الاقتصادية والصناعية في الهند والبرازيل ودول آسيا وكذلك دول الشرق الأوسط في حالة تصاعد مستمر وبمعدلات النمو المحققة سنة بعد أخرى مما أسهم في زيادة استهلاك البترول وفي الواقع الفعلي فإن معدلات الطلب على النفط قد سجلت هذه السنة زيادة على السنة الماضية بلغت أكثر من مليون و500 ألف برميل يوميا. وتتوقع الوكالة الدولية للنفط في تقاريرها الشهرية لأسواق النفط أن الطلب سيرتفع بمعدل مليونين و200 ألف برميل يوميا خلال السنة المقبلة هذا بافتراض أن النمو الاقتصادي في الصين والهند يسير بصورة طبيعية ولكن إذا نمت تلك الاقتصادات بمعدلات أسرع، فسيرتفع الطلب بدرجة أكبر من المتوقع في الطلب.
الحلول الممكنة: تضافر الجهود والتعاون لترويض الاستهلاك المفرط
من هنا نرى أن أكبر الدول المستهلكة للنفط سواء الصناعية منها أو الدول النامية بما فيها الدول المصدرة للنفط عليها مسؤولية كبيرة في ترويض الاستهلاك العالي وتخفيضه وذلك بتبني سياسات لتقليل الاستهلاك المفرط للنفط وترشيد استهلاكه، كما قامت به الدول الأوروبية في السابق بعد الارتفاعات المفاجئة على أثر حرب أكتوبر وبعد الثورة الإيرانية, حيث خفضت دول أوروبا استهلاكها بنسبة راوحت بين 20 في المائة كما هو الحال في بريطانيا ونحو 13 في المائة كما هي الحال في وفرنسا وبلجيكا وبدرجة أقل في إيطاليا بنحو 8 في المائة.
ومن جهة الدول النامية, فعلى حكوماتها رفع الدعم المالي للوقود الذي تقدمه تلك الحكومات لشعوبها كما هي الحال في الهند والبعض الآخر من دول العالم الثالث بما فيها دول الشرق الأوسط، كما أن على الحكومة الصينية بالتحديد مهمة التعجيل في تبني سياسات من شأنها إبطاء وتيرة نموها الاقتصادي المتسارع والعمل على تقليص استهلاكها النفطي الذي سيكون من أهم العوامل التي ستتحكم في أسواق النفط خلال الأشهر المقبلة من هذا العام. فالصين كما ذكرنا تبوأت ثانية كبريات الدول المستهلكة للنفط وأدت وارداتها من النفط الذي بلغ قرابة ثلث النفط الذي تستهلكه إلى تزايد معدل الطلب العالمي على البترول بنسبة 40 في المائة في الفترة بين عامي 2000 و2004. أما أكبر مستهلك للنفط، أي الولايات المتحدة وشركاتها النفطية الكبرى فإن عليهم بالذات واجب اتخاذ خطوات من شأنها إلغاء كل التخفيضات الضريبية التي تتمتع بها شركات النفط حاليا وفرض ضريبة على الأرباح المفاجئة لتلك الشركات وتكريس العائدات من تلك الضرائب الجديدة لرفع كفاءة الطاقة والنقل الجماعي.