أرامكو .. العيد الماسي
لشركة أرامكو الكثير مما يستحق الفخر والاحتفال في عيدها الماسي بمناسبة مرور 75 عاما على تأسيسها. ويكفي أنه قبل بضعة أيام فقط على الاحتفال جاء رئيس أكبر دولة مستهلكة للنفط في العالم وهي الولايات المتحدة، ليتحدث في أمر أساسي: وهو النفط وكيفية زيادة السعودية إمداداتها إلى الأسواق. ولم تكن تلك زيارته الأولى وإنما الثانية في غضون خمسة أشهر. وبينهما جاء نائبه ثم وزيرة خارجيته، علما أن الولايات المتحدة ليست فقط أكبر مستهلك للنفط في العالم اليوم، وإنما هي القطبية الوحيدة. مغزى هذا كله أن السعودية عبر "أرامكو" هي الجهة الوحيدة التي يمكن اللجوء إليها لإحداث تأثير ما في أسواق النفط التي تشهد اضطرابا غير مسبوق.
السعودية ليست الدولة الوحيدة في العالم التي تملك احتياطيات نفطية يعتد بها، لكن السياسات التي تقوم "أرامكو" بتنفيذها هي التي أوصلت إلى هذه المرحلة، ومن أبرز ملامحها: القدرة على الاستمرار في توفير الإمدادات، والإمكانية على التعويض عن أي نقص لسبب أو آخر، ولهذا أيضا الاحتفاظ بقرابة مليوني برميل بكل ما في ذلك من عبء وتكلفة مالية وإيجاد مختلف المنافذ القادرة على إيصال النفط إلى الأسواق، لذا قامت بالاستثمار في منفذي الخليج والبحر الأحمر إضافة إلى خط سوميد.
على أن الأهم من هذا كله أن "أرامكو" نجحت في القيام بكل هذا والاحتفاظ بقدرتها على العمل مستقلة وتطورها من شركة مملوكة بالكامل لجهات أجنبية إلى شركة وطنية بالكامل قادرة على توفير التقنية أو الحصول عليها إلى جانب توفير الاستثمارات اللازمة، كما اتضح كل ذلك وبصورة جلية في برنامج التوسعة ورفع الطاقة الإنتاجية الأخير الذي يكلف نحو 90 مليار دولار، ويتوقع أن يكتمل العام المقبل.
عندما اكتشفت شركة سوكال النفط في السعودية في ثلاثينيات القرن الماضي، توصلت بسرعة إلى أنها عثرت على مكامن نفطية من الضخامة والاتساع بالدرجة التي لا يبدو معقولا أن تحتفظ بهذا الكنز وحدها. ولهذا اتصلت بآخرين أمثال "إكسون موبيل" و"شيفرون" لتأسيس "أرامكو"، وهي العملية التي اكتملت وظلت تعمل لفترة عقود من الزمان في إطار الموجهات السعودية العامة.
واتضحت هذه الأبعاد بصورة واضحة إبان "هوجة" السبعينيات عندما أصبحت السوق تميل لصالح البائعين، ووجدت الدول الأعضاء في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) الفرصة لإحكام سيطرتها على الصناعة النفطية في بلدانها. البعض انتهز الفرصة للقيام بعمليات تأميم مباشرة, وتولي الشركات الوطنية الإشراف الكامل على الصناعة.
السعودية قادت تيارا آخر تبنى نهجا مختلفا وهو المشاركة المتدرجة بداية بنسبة 25 في المائة إلى أن اكتملت السيطرة على كل أصول الشركة في عام 1980, وأصبحت سعودية بالكامل.
هذا التدرج كان من الأهمية بمكان, وذلك لضمان التحكم في مفاصل الصناعة عبر المعرفة والقدرة. ويتضح هذا من حقيقة أن السعودية مع أنها تكاد تكون آخر دولة تسيطر على صناعتها النفطية عبر شركة أرامكو، إلا أنها تكاد تكون الوحيدة التي لم تسمح بأي عودة للشركات الأجنبية بصورة ما من الصور، خاصة في ميدان العمليات الأمامية، ويعود هذا كما ذكر آنفا إلى قدرة السعودية على تمويل أي مشاريع تعتزم القيام بها والحصول على التقنية اللازمة لذلك عبر قدراتها واتصالاتها الذاتية.
ليس هذا فقط، وإنما نجحت "أرامكو" في الانفطام من صلتها القديمة التي استمرت عقودا من السنين مع الشركات الأمريكية التي قامت بتأسيسها في المقام الأول. ويظهر هذا في نموذجين: الأول أن "أرامكو" هي التي وضعت موضع التطبيق قرار الحظر النفطي الذي اتخذته القيادة السعودية عام 1973 والموجه بصورة أساسية إلى الولايات المتحدة، وهو القرار الذي دخل التاريخ تحت اسم الصدمة النفطية الأولى، هذا علما أنه في ذلك الوقت لم تكن "أرامكو" قد أصبحت شركة وطنية، لكن هذا النموذج يشير إلى سيطرة القرار السياسي وقدرته على تنفيذ رؤيته حتى في أصعب الظروف.
النموذج الثاني أن السعودية عندما طرحت مبادرة الغاز في العقد الماضي وكيفية الاستفادة منه، تولت "أرامكو" أمر تنفيذ الفكرة، ورغم التوصل إلى اتفاق مبدئي في الأساس مع شركات أمريكية ذات ثقل دولي في الصناعة مثل "إكسون موبيل"، إلا أن الخلافات التي برزت فيما بعد حول الاتفاق والمضي به إلى الأمام، دفع "أرامكو" إلى التوصية بإلغاء تلك الاتفاقيات الأولية, وفتح التفاوض مجددا بعد تغيير في التوجهات العامة مثل تصغير حجم المشاريع المستهدفة، الأمر الذي حدث وأدى في نهاية الأمر إلى بروز لاعبين جدد أوروبيين وآسيويين وروس، وليس من بينهم شركة أمريكية واحدة.
وهذان النموذجان مؤشران على عائد العمل بمهنية وواقعية وتفسير لمسيرة 75 عاما من الإنجاز.