عصر أوبك الذهبي
لخص فاتح بيرول، كبير الاقتصاديين في الوكالة الدولية للطاقة، الوضع الذي تمر به السوق النفطية في الوقت الحالي بأنه لا يشبه أي شيء حدث من قبل. فوفقا للنظريات الاقتصادية وتاريخ صناعة النفط الممتد إلى أكثر من قرن ونصف من الزمان، فإن ارتفاع الأسعار يؤدي في العادة إلى نتيجتين: تقليل الاستهلاك ومن ثم الطلب وبروز مناطق إنتاج جديدة تضيف إلى حجم الإمدادات المتاحة.
ولهذا يقول الذين يتبنون نظرات استراتيجية وبعيدة الأمد إن الأسعار المنخفضة مضرة للمستهلكين مثلما هي مضرة للمنتجين. وبالقدر نفسه فإن الأسعار العالية مضرة بالمنتجين مثلما هي مضرة بالمستهلكين، رغم ما في هذا القول من تناقض على المدى القصير.
وتفسيرا لهذا، فإن الأسعار المرتفعة رغم أنها تصب في مصلحة المنتجين في البداية، إلا أنها تدفع المستهلكين إلى تقليل استخدامهم مختلف المنتجات خفضا للنفقات، الأمر الذي يسهم في تراجع الطلب، كما أنها توفر الجدوى الاقتصادية المطلوبة لبدء الإنتاج من حقول مكلفة ومن ثم دخول إمدادات جديدة إلى الأسواق تنعكس على الأسعار بعد إعمال قانون العرض والطلب.
وبالقدر ذاته، فإن الأسعار المنخفضة تعني في البداية إنفاقا أقل بالنسبة للمستهلكين، الأمر الذي يدفعهم إلى استخدام أكثر، ما يسهم في رفع الاستهلاك ومن ثم الطلب، الأمر الذي ينتهي برفع الأسعار طال الزمن أم قصر.
الدول الأعضاء في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) لم تنتبه إلى هذه الحقائق البسيطة، واغتر بعضها بسبب تلازم عامل زيادة الطلب مع البعد السياسي الذي يسكن منطقة الشرق الأوسط، خزان النفط الأساسي في العالم، لتدفع في عقد السبعينيات إلى زيادات متلاحقة في سعر برميل النفط. وكانت تتصرف على أساس أن سعر البرميل له طريق واحد: أن يستمر فقط في التصاعد. لكن الأمور وصلت إلى قمتها في ربيع عام 1980، حيث بدأت بعدها رحلة التراجع.
أحد عناصر هذا التراجع بروز منتجين جدد في ألاسكا وبحر الشمال وغيرهما. وبما أن هؤلاء ينتجون طاقتهم القصوى وليسوا مهمومين بمعدل معين للأسعار للحفاظ عليه والدفاع عنه كما تفعل (أوبك)، فإنهم أتاحوا للمستهلكين كميات إضافية من النفط بأي سعر يمكنهم الحصول عليه. وهذا ما دفع إلى بروز فجوة بين السعر الرسمي الذي تتعامل به (أوبك) وسعر السوق الحرة، وبما أن حصة المنتجين من خارج (أوبك) نمت إلى نحو 60 في المائة، فقد أصبح الميزان مائلا إلى جانب هؤلاء المنتجين باستمرار، وهو ما دفع (أوبك) إلى العمل على تقييد إنتاجها، ثم التحول إلى الخطوة التالية المؤلمة بتحديد سقف معين وحصص لكل دولة عضو مع تكليف السعودية مهمة المنتج المرجح الذي يرتفع بإنتاجه ويخفضه حسب وضع السوق.
تلك الخطوات لم تنجح وانتهت بحرب أسعار أبرز ما فيها محاولة منتجي (أوبك) إعادة سيطرتهم على السوق وطرد المنتجين الهامشيين. فبما أن الأسعار المرتفعة أتاحت الفرصة لدخول منتجين جدد، فإن تراجع الأسعار ينبغي أن يعمل في الاتجاه المعاكس ويدفع ببعض المنتجين إلى خارج السوق. لكن بما أن تكلفة إنتاج برميل لأول مرة تختلف عن مجرد التشغيل والاستمرار في الإنتاج بعد ذلك، فقد وضح جليا لـ (أوبك) صعوبة طرد منتجين كبريطانيا فببساطة كلف استخراج البرميل من بحر الشمال نحو 18 دولارا في البداية، لكن الاستمرار في الضخ بعد استكمال عمليات الاستكشاف والتنقيب لم يتجاوز خمسة دولارات للبرميل، الأمر الذي أوضح لـ (أوبك) صعوبة الاستمرار في حرب الأسعار تلك.
وتحول النقاش إلى جانب آخر أن يتحمل المنتجون جزءا من عبء الدفاع عن السوق كما تفعل (أوبك)، وهي محاولة لم تنجح بصورة مقنعة رغم الإعلانات الصادرة من منتجين خارجيين كالمكسيك، روسيا، النرويج وغيرها بالتعاون. لكن ظل الهاجس الأساسي أمام دول (أوبك) أن تحصل على حصة في السوق تتناسب مع الاحتياطيات التي تملكها.
التطورات التي تشهدها السوق النفطية في الوقت الحالي تشير إلى أن الأمور تسير في هذا الاتجاه، فالشواهد كلها تشير إلى استمرار النمو في الطلب ولو بدرجات متفاوتة، والاحتياطيات تتركز عمليا في دول (أوبك) خاصة منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يدفع المنتجين خارجها إلى الهامش شيئا فشيئا ويرفع من نسبة حصتها في السوق التي لا تتجاوز في الوقت الحالي 40 في المائة إلى أكثر من ذلك. ويعني هذا في هذا عودة العصر الذهبي لـ (أوبك) بكل ما في ذلك من مسؤوليات مصاحبة تحتاج إلى الاستعداد لها، وبما يتجاوز أسلوب إدارة السوق بصورة وقتية ومؤقتة، وهو ما ظلت (أوبك) تمارسه خلال السنوات القليلة الماضية رغم اعتمادها استراتيجية بعيدة الأمد.