وأد الأزمات المالية من جذورها
انهيار الأسواق المالية ظاهرة تحدث عادة بعد فترة طويلة من الانتعاش تصل فيها مكررات الأرباح ومعدلات العوائد إلى معدلات مرتفعة نسبياً بما لا يتناسب مع القيمة الحقيقية للشركات وتنتهي إلى حدث أو أحداث اقتصادية تؤدي إلى عمليات بيع مكثفة للخروج بأقل خسائر ممكنة (هلع) ما يؤدي إلى انحدار حاد في القيم السوقية للشركات ولمؤشرات الأسواق المالية. وهنا قد يتعجب الكثيرون من حدوث ذلك الانهيار أحياناً على الرغم من متانة العوامل الأساسية للاقتصاد أو حتى العوامل الأساسية للشركات نفسها. كما أن النظريات المالية والاقتصادية المستندة بشكل أساسي إلى افتراض السلوك العقلاني للأفراد Individuals Rational Behavior تعجز عن تفسير مثل هذه الظاهرة. لكن التعامل مع مثل هذه الأزمات ومحاولة تفسيرها يجب أن يتم في إطار التفسير الاجتماعي والسلوكي لمثل هذه الظواهر. إذ إن التفسير الاجتماعي والسلوكي يقدمان تفسيراً لا يستند إلى الافتراض الاقتصادي غير الواقعي المتعلق بأن كل فرد يتصرف بشكل عقلاني مما يسهم في تفسير أكثر منطقية لسلوك الأفراد الاستثماري, خصوصاً في مثل الأزمات المالية الحالية. وفهم المشكلة من هذا الجانب سيؤدي إلى التعاطي معها بشكل أكثر إيجابية سواء من الفرد المستثمر أو من صانع القرار الاقتصادي الذي يهدف بشكل أساسي إلى استقرار الوضع الاقتصادي العام في الدولة.
أحد التفسيرات الاجتماعية الأساسية يأتي من خلال نظريات السلوك الزحامي (أو التزاحمي) Crowd Behavior والمتضمن أن الأشخاص العاديين يكتسبون قوة أكثر بالتصرف بشكل جماعي وذلك استناداً إلى الدليل التاريخي الذي يؤكد أن الجماعة أكثر قدرة على إحداث التغيير من الفرد بما يتوافق أيضاً مع المثل الشعبي السائد القائل: (الموت مع الجماعة رحمة). أما التفسير السلوكي فيأتي من خلال نظرية التغذية الرجعية الإيجابية Positive Feedback والمتضمنة أن عملية التصرف الاستثماري بواسطة أحد الأفراد (بيع أو شراء) يؤدي إلى تصرف بالاتجاه نفسه من قبل مستثمر آخر ما يؤدي إلى مضاعفة المحصلة النهائية للسلوك الفردي. هناك بالطبع نظريات أخرى تحاول تفسير السلوك الاستثماري للأفراد خلال الأزمات الاقتصادية ومن ضمنها تفسيرات تعتمد على النماذج الرياضية البحتة لكني أجد أن أكثر التفسيرات منطقية وقبولاً في مثل هذه الأزمات تلك التي تعتمد بشكل أساسي على مزيج من التفسير الاجتماعي والسلوكي (النفسي) لسلوك الأفراد.
وإذا سلمنا بمنطقية النظريتين المشار إليهما فإن تجنب انهيار في سوق المال يمكن أن يتم من خلال تغيير قناعات الأفراد التي ترسخت بسبب الحدث الاقتصادي الأساسي الذي قاد إلى عملية التزاحم السلوكي Crowd Behavior والذي تمت مضاعفته عن طريق التغذية الرجعية الإيجابية Positive Feedback. لكن السؤال الحرج هو كيف يتم تغيير قناعات الأفراد بشأن الوضع الاقتصادي أو الاتجاه العام لسوق المال؟ يمكن أن يتم ذلك من عدة جوانب أحدها التأكيدات المستندة إلى أدلة مادية من قبل المسؤولين الاقتصاديين على متانة الوضع الاقتصادي. هذه التأكيدات يجب أن ترتكز على ثلاثة جوانب تمثل في مجملها مصدراً أساسياً للاضطراب المالي الحاصل. أولاً: المعلومات الجديدة (انهيار مؤسسة مالية مثلاً) وأثرها في الوضع الاقتصادي العام وعلاقتها المتوقعة بمسار سوق المال. ثانياً: التقليل من حالة عدم التأكدUncertainty بشأن المستقبل والسائدة بين الأفراد في مثل هذه الحالة باستخدام أدوات السياسة المالية والنقدية لدعم الوضع الاقتصادي والتأكيد على متانته في المستقبل (دعم السيولة مثلاً). ثالثاً: التعامل مع الهستيريا والفزع المالي بالجانبين الإيجابي أو السلبي من خلال السياسات المتبعة لإدارة السوق المالية كالتأكد من انسياب المعلومات بشكل صحيح وضمان الوقت الكافي لاستيعابها بشكل صحيح من قبل المتعاملين.
والتعامل محلياً مع الأزمة الحالية تم أولاً من خلال التركيز على العامل الأول المتعلق بأثر هذه المعلومات الجديدة (أزمة السيولة العالمية) من خلال تصريح نائب محافظ مؤسسة النقد وتصريح وزير المالية واللذين كان لهما أثر إيجابي ملحوظ في أداء السوق المالية. لكن التصريحات وحدها لم تكن كافية لأنها لم تسهم في تغيير قناعات كثير من الأفراد المستثمرين بشكل كامل بما يعني أنه لم تزل هناك حالة من عدم التأكد بشأن الوضع المستقبلي للاقتصاد (العامل الثاني). لذلك كان لجوء مؤسسة النقد إلى تخفيض سعر الريبو وتخفيض الاحتياطي النظامي وسيلة لتحقيق ذلك التغيير في قناعات المستثمرين ما أدى إلى انعكاس إيجابي على السوق. ما لم يلجأ إليه حتى الآن وما قد يكون فاعلا هو إرسال رسائل غير مباشرة تتضمن تقديرات الدولة بأن هناك إفراطاً أو نقصاً في الثقة يتعدى الحدود المعقولة من خلال (سياسة محددة سلفاً) للتحكم بنسب حيازات الدولة من أسهم الشركات المطروحة للتداول. فتدخل الدولة بالشراء المباشر عند نزول السوق (بشكل كامل) إلى حدود لا تعكس المؤشرات الأساسية ، وبالبيع عند الارتفاع بنسب محددة سلفاً سيجعل المستثمرين يزيدون من توقعاتهم بارتداد المؤشر كلما قارب هذه النسب المحددة نزولاً أو ارتفاعاً ومن ثم تغيير مواقعهم من البيع إلى الشراء في حالة الاتجاه النازل، أو إلى البيع بدلاً من الشراء في حالة الاتجاه الصاعد ما سيؤدي إلى استقرار التذبذب في المؤشر عند حدود معينة.
أما المصدر الأخير من مصادر الاضطراب المالي فهو الهستيريا أو الفزع المالي والذي قد يحدث من خلال الاتجاه الصاعد أو النازل للسوق استناداً إلى الإفراط في الثقة عند الارتفاع أو افتقادها عند النزول. لذلك فإن المطلوب في مثل هذه الحالة العمل على موازنة ثقة المستثمر سواءً خلال الارتفاع أو خلال الانخفاض. كيف يتم ذلك؟ لا يمكن التعامل مع ذلك بشكل مباشر من خلال إدارة السوق من قبل الهيئة المالية وأي محاولة لتصحيحها بشكل مباشر قد تؤدي إلى آثار سلبية حادة على الوضع العام للسوق المالية (كما حدث عند تخفيض حدود التذبذب عام 2006). كما أن خرافة (إغلاق الأسواق) لن تحل المشكلة وإنما ستؤجلها إلى حين آخر مادامت المشكلة الأساسية التي أدت إلى اضطراب السوق (المعلومات الجديدة التي غيرت قناعات المستثمرين) لم تحل. لذلك فإن أفضل ما يمكن عمله من خلال إدارة السوق المالية هو التأكد من (توافر) وانسياب المعلومات الجديدة واستيعابها بشكل صحيح من قبل جميع المستثمرين في السوق.