البيئة وثقافة اللامبالاة
في أكثر من مناسبة وفي أكثر من مكان وفي أوقات متفرقة يلاحظ المرء تكرار سلوك أو ممارسة أو فعل ويتساءل ما السر وراء تكرار مثل هذا السلوك أو الفعل؟ هل السبب ميل طبيعي يجده الأفراد أو معظمهم نحو هذا الشيء يشعرون معه بلذة أو نشوة، أم أن هذا الفعل يترتب عليه مصالح؟ وإذا كان السبب خلاف ذلك أي لا ميل طبيعي ولا هو بسبب مصالح ذاتية، فهل يكون بسبب ثقافة الناس؟ وهل توجد ثقافة عامة تحرك الناس أو معظمهم تجاه هذا السلوك أو ذاك؟ طرحت هذا السؤال على نفسي عدة مرات حينما ألاحظ بعض السلوكيات التي لا تسر وفي الوقت ذاته تضر إما المجتمع أو البيئة. قبل عدة سنوات زرت أبها بهدف الاستمتاع بجوها اللطيف، وخضرتها النضرة، لكن هذا الهدف لم يتحقق كما يجب، إذ وفي أفضل الأماكن كالسودة، والسحاب، والقرعا، وغيرها من أماكن الجذب السياحي يجد الإنسان ما ينغص عليه جلسته إذ إن الفرد يقضي وقتاً طويلاً يبحث عن مكان نظيف لكن يستعصي عليه ذلك، والسبب ما يجده الفرد من نفايات تركها الناس في الأماكن التي ينزلون بها، ولا يكلفون أنفسهم وضع النفايات في أماكنها المخصصة لها، بل يتركونها في المكان دونما حياءً أو شعور بالمسؤولية الوطنية القاضية بالمحافظة على البيئة. هذه الملاحظة ليست خاصة بأبها بل تجدها في الباحة، وفي الطائف، وفي الشفا، وفي الهدا، وتراها في الثمامة، والجنادرية، وفي شاطئ نصف القمر، والعزيزية، وعلى الطرقات السريعة، حيث يتوقف المسافر، ويأكل، ويشرب ثم يغادر المكان تاركاً خلفه كماً هائلاً من المخلفات. ولو فطن المرء لطبيعة هذه المخلفات لوجد أنها صحون، وكأسات، وسمط، وكلها من الصناعات البلاستيكية التي لا شك أنها ذات ضرر بالغ على البيئة خاصة البيئة النباتية، لقد هالني ما لاحظته وأنا أقطع المسافة بين مكة والطائف من أوراق ومخلفات بلاستيك، حيث لا ترى شجرة إلا وقد غشيها كم هائل من هذه المخلفات، وما من شك أنها نتاج اللامبالاة في سلوكنا العام نحو بيئتنا. إذا كان هذا الواقع بفعل أنفسنا ونتيجة تصرفاتنا، وهذه هي الحقيقة المرة، فهل نفكر في تغيير الواقع؟ تغيير الواقع له شروط ومتطلبات، أولها ثقافة اجتماعية تؤكد قيمة النظافة، وتؤكد أهمية المحافظة على البيئة، وثانيها إيجاد الأنظمة والقوانين التي تهتم بالبيئة، والمحافظة عليها، وثالثها تطبيق الأنظمة وفرضها على من لا يحترمها. الثقافة بهذا الشأن ثرية ومصدرها الدين الإسلامي الحنيف (إماطة الأذى عن الطريق صدقة)، حديث شريف يتكرر على مسامعنا في المدارس، وفي الأحاديث الإذاعية، والتلفزيونية، وفي المحاضرات، وفي خطب الجمعة، وغيرها من المناسبات، ومع ذلك لا نجد أثراً يذكر في ذواتنا، وعلى سلوكنا، وتصرفاتنا، الحال كما سبق الإشارة أبلغ من المقال، والعين ترى ما لا يسر على أرض الواقع. في ما يتعلق بالأنظمة توجد هيئات ومؤسسات حكومية مثل الرئاسة العامة للأرصاد، وحماية البيئة، والهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية، وإنمائها، والأمانات، والبلديات، كل هذه الجهات معنية بالبيئة، والمحافظة عليها لكن يبدو أن جهود هذه الجهات لم تحقق النجاح الذي نتطلع إليه لتحجيم هذه الظاهرة السلوكية غير اللائقة والحد منها.
ندرك جميعاً أن السلوك الذاتي النابع من القناعة الشخصية أفضل من السلوك المفروض على الفرد، لأنه لا يمكن أن نضع فرداً يراقب كل فرد ويفرض عليه النظام، إلا أن فرض النظام أمر لا بد منه وهذه هي الطبيعة البشرية التي جبلهم الله عليها. وهذا يؤكده الحديث الشريف (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، ومما يؤكد أهمية الدور الذي يفترض أن تقوم به الجهات الرسمية في فرض النظام، والقانون على من لا يحترمه. إجراءات أقدمت عليها الكثير من الدول التي تعنى ببيئتها كأمريكا، وبعض الدول الأوروبية، حيث لا تستخدم أكياس البلاستيك في الأسواق لوضع البضائع المشتراة فيها، إذ يحضر المتسوقون معهم من منازلهم أكياس قماشية، وسلال، ويحملون بها ما يشترونه بدلاً من أكياس البلاستيك، أما في أمريكا فالأسواق تستخدم أكياس من ورق بدلاً من البلاستيك، وذلك للحد من كميات البلاستيك التي تكون في أيدي الناس ويساء استخدامها وتدمر البيئة. لا شك أن مصانع البلاستيك قد تتضرر في ما لو وجد نظام يمنع على الأسواق، والبقالات استخدام أكياس البلاستيك، لكن الأكياس ما هي إلا جزء بسيط من المنتجات البلاستيكية التي تستخدم في الأكل، والشرب، والألعاب وهذه تنتهي في نهاية المطاف إلى الشوارع، والحدائق العامة، والغابات، والمتنزهات.
أرى أن التفكير في الحد من استخدام الأدوات البلاستيكية أمر لا بد منه، وفي الوقت نفسه لابد من فرض النظام لحماية البيئة العامة، وذلك بفرض رسوم على كل من يلقي النفايات، ويتركها في الحديقة، أو في البر، أو على قارعة الطريق. كما أن إعادة النظر في استخدام الأدوات المؤقتة، التي تمثل ثقافة جديدة على مجتمعنا أمر يسهم في التخلص من هذا السلوك اللا حضاري المسيء لصورتنا أمام الآخرين، والمضر ببيئتنا، وإذا ما وصلنا إلى قناعة التخلص من هذه الثقافة واستبدالها بثقافة استخدام الأدوات الدائمة فهذا يتطلب استنفار الجهود كافة من قبل الإعلام والأطباء الذين يبينون للناس أضرار هذه الأدوات، كما أن المسلسلات الرمضانية، وأفلام الكرتون قد تسهم في تشكيل الثقافة التي نسعى لتحقيقها بدلاً من ترك الحبل على الغارب كما يقول المثل، فإذا كانت أوروبا وأمريكا التي خضرتها تمتد على مساحات شاسعة قد سعت للحد من استخدام المواد البلاستيكية فكيف ببلد نفرح إذا رأينا شجرة خضراء. إن بيئتنا الصحراوية تحتم علينا بذل الجهود كافة من تنشئة جيدة، إلى أنظمة وتشريعات وإجراءات وتطبيق لهذه الأنظمة إذا ما أريد لنا أن نحافظ على ما تبقى من خضرة وشجيرات بجانب طرقنا وفي مناطق السياحة المحدودة لدينا. إن قدرتنا على تغيير سلوك اللامبالاة نحو بيئتنا مرهونة بقدرتنا على الانتقال بالأفراد من التمركز حول الذات والأنانية إلى الشعور بالمسؤولية الوطنية العامة.