الذهب الجديد

الذهب الجديد

عرف النفط باسم الذهب الأسود منذ فترة طويلة، وذلك تمييزا له عن الأصفر الرنان، لكنه يبدو إثر التطورات الأخيرة التي تمر بها السوق النفطية، أنه يتجه إلى الحلول محل الذهب الأصفر أداة للتحوط وملجأ في زمان التقلبات والتضخم وتحرك الأسعار مرتفعة ومنخفضة بسبب كشكول من العوامل التي تكاد تتحرك لوحدها ودون سيطرة من أحد.
سعر برميل النفط لا يزال يراوح فوق 105 دولارات، أي متجاوزا 103.59 دولار التي تم حسابها بعد وضع عنصر التضخم في الحسبان للقمة التي بلغها في نيسان (أبريل) 1980 وبلغ 39.58 دولار للبرميل.
التفسير الرئيس في هذا التصاعد أن الذهب الأسود أصبح ملجأ للباحثين عن التحوط من تدهور العملة الأمريكية. وكما قال دانييل يرجن الباحث المعروف ومؤلف كتاب (الجائزة)، الذي يلخص تاريخ صناعة النفط، فإنه كلما تضعضع الدولار اتجه المتعاملون إلى النفط لما يرونه أفضل خيار متاح أمامهم للتعويض عن التراجع في قيمة العملة الأمريكية. وبصورة أخرى، فإن التراجع في قيمة الدولار صار يعادل الارتفاع في الطلب.
والأمر لا يقتصر على بروز النفط بصفته الجديدة، وإنما بدأت ترتسم ملامح أساسيات جديدة ينبغي وضعها في الحسبان عند التخطيط لدراسة السوق وواقع العرض والطلب. صحيح أن عنصر العرض والطلب سيظل هناك يلعب دوره عاملا مؤثرا في تحريك سعر البرميل، لكنه لم يعد العنصر الوحيد أو الحاسم، وإنما برزت مجموعة من العناصر الأخرى، أطلقت عليها رابطة كمبريدج لأبحاث الطاقة صفة الأساسيات الجديدة للسوق، وذلك في دراسة جديدة نشرتها الأسبوع الماضي.
وعلى رأس هذه العوامل تصاعد تكلفة العمل في الصناعة النفطية، فخلال السنوات الثلاث الماضية تضاعفت تكلفة التنقيب والاستخراج بنحو 100 في المائة، الأمر الذي ينعكس على سعر البرميل بصورة مباشرة.
وضع السوق أصبح يعطي فرصة للدول المنتجة أن يكون لها دخل فيما يجري، وبالتالي حساب هذا التدخل، وهو ما عبّر عن نفسه في شكل ضغوط تمكنت الدول المنتجة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية من فرض شروطها في أحيان كثيرة على الشركات النفطية. فحقيقة أنه لا توجد أماكن ذات احتياطيات كبيرة يمكن الوصول إليها بسهولة، ومع تصاعد الطلب وقلة الاكتشافات تجد الدول ذات الاحتياطيات أنها في موقف قوي لتصبح لاعبا على الساحة. ولهذا الوضع، الذي أطلق عليه البعض صفة "الوطنية النفطية" وأبرز فرسانها فنزويلا تحت قيادة رئيسها هيوجو شافيز، تبعاته المالية، إذ أصبحت هناك عوامل دافعه لرفع الأسعار وإبقائها مرتفعة.
ولهذا فأي تخطيط أو مسعى لتقدير تحركات سعر برميل النفط، لا بد له أن يضع في حسبانه إلى جانب عامل العرض والطلب، عناصر الاقتصادات الكلية والوضع الجيوسياسي. ومع أن هذه ظلت موجودة بصورة أو أخرى، إلا أن تحولات موازين الثقل السياسي والاقتصادي تجعل من النتائج مختلفة، فلم يعد مثلا وضع النمو الاقتصادي في الدول الصناعية السبع هو العامل الحاسم في تحديد مقدار الطلب المتوقع، وإنما ما يجري على الساحة الآسيوية، التي أصبحت تستوعب أكثر من نصف صادرات الدول الأعضاء في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك). وهذا ما يفسر لماذا تظل أسعار النفط مرتفعة في الوقت الذي يكاد فيه الاقتصاد الأمريكي يدخل مرحلة الكساد ومعدلات النمو في الطلب على النفط في دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي تكاد تكون صفرا.
يضاف إلى هذا عدم الإفصاح وبشفافية كافية عن الأرقام الخاصة بالأداء الاقتصادي في منظومة الدول الآسيوية أو نشر تلك الأرقام بسرعة. والنتيجة أن العالم فوجئ في عامي 2004 و2005 بنمو في الطلب لم يكن في الحسبان كان مصدره الصين ثم الهند وفيما بعد بقية الدول الآسيوية، هذا في الوقت الذي كانت فيه أنظار المحللين مركزة على ما تبثه العواصم الغربية من أرقام وتحليلات كانت كلها تتوقع تراجعا سعريا، ولهذا خلص المركز الدولي لدراسات الطاقة في تقريره الشهري الأخير أنه ما لم يتطور الكساد الذي يشهده الاقتصاد الأمريكي إلى كساد عالمي يصيب أول ما يصيب الدول الآسيوية، فإن المعدل الحالي للأسعار سيظل على حاله.
ويلاحظ كذلك أن تقديرات المركز في النمو على الطلب هذا العام لا تتجاوز نصف مليون برميل مقابل 1.3 مليون في تقدير إدارة معلومات الطاقة الأمريكية و1.7 مليون من الوكالة الدولية للطاقة، وهي الوحيدة التي سجلت رفعا في تقديراتها للطلب هذا العام بنحو 100 ألف برميل إضافية عن تقديراتها الشهر الماضي، بينما اتجهت تقديرات بقية المؤسسات إلى التراجع.
ورغم هذا يظل سعر البرميل مرتفعا ويستمر على ارتفاعه هذا لأن هناك عوامل جديدة صارت تحرك السوق، وهي التي ستفرض حضورها شيئا فشيئا في مقبلات الأيام.

[email protected]

الأكثر قراءة