المسؤولية الاجتماعية بين قدم المبادرات وحداثة المفهوم (2 من 2)
عطفا على أنشطة ومحاولات بعض المؤسسات الجادة التي تقوم بنشر مفهوم المسؤولية الاجتماعية كنت أتساءل "لماذا على رجال الأعمال أن يهتموا بنماء المجتمع وازدهاره؟ هل قصر القطاع العام في جانب أو جوانب ولا بد أن يتحمل القطاع الخاص سد هذه الثغرات؟ الإجابة التي يمكن تلخيصها مما كتب ونشر أن الدور الذي يمكن أن يقوم به القطاع الخاص تجاه المجتمع كبير جدا ولا حدود أو إطار له وليس ذلك من عجز دور القطاع العام ولكن لأن الفائدة التي تعود على اقتصاد الدولة ومستقبلها الثقافي والاجتماعي كبيرة جدا إذا ما شارك القطاع الخاص في المسؤولية لأنه بذلك يشاطر الحكومة المسؤولة عن الكيان والتشريعات والشؤون القانونية والنظامية بإضافة قيم متعددة ترتقي بمستوى المجتمع بين الأمم. إن من مكاسب القطاع الخاص أن يحسن ويعزز الحرية الشخصية مع الحفاظ على الهوية حيث تتضمن هذه القيمة حرية الاختيار والانفتاح والشفافية وحقوق الأفراد والخصوصية، إضافة إلى نشر الأنشطة التطوعية، والمساهمة في تحقيق الاكتفاء الذاتي. من جهة أخرى، فهو قادر على التعامل مع الأفراد والمؤسسات معا بعدالة وتساوي حقوق لأنه قريب منهم ويحتاج لهم لتنمية مكاسبه. هذا إضافة إلى إمكانيته تنمية الحس المجتمعي العام ولمستويات معيشية متفاوتة ومتعددة, كما يمكنه أن يبادر بتنويع الاستثمارات وتشجيعها بالفكر التجاري المتجدد فينمي القدرة الاقتصادية للفرد والمجتمع والدولة بتعليم الأفراد كيفية الموازنة بين الإنفاق والادخار واختيار الأفضل والمشاركة في تطوير الخدمة, ويوجه حديثي المستثمرين لقنوات الأداء المتميز والأنشطة منخفضة التكاليف جيدة العوائد فيعزز بذلك النمو الاقتصادي تاركا المساحة المهمة للقطاع العام ألا وهي إعداد الفرد والمجتمع للانخراط في هذه المسيرة ومن ثم حمايته من إضاعة هذه المكتسبات والحفاظ عليها بالتنظيم والتشريع الجيدين والاهتمام بالتعليم العام ومخرجاته في القطاعين.
إن بناء الأمم يبدأ من المدارس فلو راجعنا مسيرة التعليم بأرقامها المتنامية في إعداد الدارسين ونسب النجاح والتفوق على مدى 50 عاما لوجدنا أن هذا التنامي يصور تطورا هائلا على المستوى العددي والتخصصي وتقسيم ذلك بين الجنسين والانتشار على مستوى المناطق. بهذه المنجزات يمكن لنا أن نعول على التحول المجتمعي الكبير في تغيير أسلوب إدارة الخدمات, فدخول المناطق بقوة مجالسها البلدية ورجال أعمالها مع تنويع الاستثمار فيها لتشارك في تحقيق النمو المتوازن بينها يعني أن التعليم أول مسؤولية يمكن للقطاع الخاص المشاركة في بذل الغالي والرخيص لتطويره وترجمة ذلك بإعداد كوادر عاملة وقيادية حاذقين فكريا وماهرين مهنيا ومتمكنين أداريا, وهمهم تحقيق أهداف التطوير الشامل. لقد سجل للقطاع الخاص في السنوات العشر الماضية إتاحته الفرصة لبعض خريجي الجامعات أو المعاهد والكليات الفنية المهنية بركوب قاطرة التنمية عبر الانتساب بشركاته ومؤسساته. قد يكون هذا جزءا من المسؤولية ولكن نريد إتمامها بدخول حقبة جديدة تؤصل تقاليد حسنة مثل الدعوة لنبذ الجلافة والتقطيب وتبني الابتسامة والتحبيب وتسويق البضائع والمنتجات بالترغيب وتنبذ ممارسات دخيلة يمكن أن تتعثر بها كفاءة تقديم الخدمة على المستويين العام والخاص. كما يمكن للقطاع الخاص أن يدفع بجانب مهم مثل التخصصية في تعلم المهارات المختلفة على أيدي أربابها في المؤسسات الصناعية المختلفة مثل مجالات الكهرباء والسباكة والنجارة والزراعة وغيرها ليكون شعار العمل الجدية وصدق العزيمة وجودة الأداء. عندها لن يكون هناك متمنع في قبول العمل في سوق الخضار وكثير من المحال التجارية والمطاعم وتسويق المنتجات الذي يحاول كثير من الآباء تجنب تشغيل أبنائهم فيه الآن. وفي ذلك الوقت أيضا سيعي الشاب والشابة أننا لا نريد مديرا شابا هَرِم بانعدام حماسه للعمل وتبلد حسه عن أداء الوظيفة بحيوية وجدية, لأن هذا المدير سيحول الجديد المثابر إلى مجرد ناظر وجعل الروتين البائد هو النظام السائد وبالتالي ما كان يعد مفخرة يصبح موؤودا في مقبرة!. لذلك لو تم تبني هذه المفاهيم خلال سنوات الطفل المهمة (10 إلى 18 عاما)، فسوف نجدهم يبادرون بالتخطيط لإجازاتهم مثلما تعلموا وتعودوا على نظام الدراسة اليومي ويهتمون بالوقت، كما كان آباؤهم وأسلافهم وسيعتمدون على القراءة وزيارة المكتبات للتثقيف الذاتي وسيهتمون بنشر مهارات كل أنواع الفنون لحفظ التراث حسب الأصول الراسخة والمتعارف عليها. إننا بذلك حتما سنصنع جيلا إذا ما تسنم مسؤوليات كبيرة أو أنعم الله عليه بثروة طائلة فإنه سيكون مبادرا من ذاته ويتخذه كل من حوله قدوة لهم.
في الواقع قد لا نستطيع تعليمهم كل ما نريد أو تربيتهم على أفضل ما نود ولكن سنتمكن حتما من جعلهم يفكرون في ذلك بل ويشغل حيزا كبيرا في ثقافتهم طيلة حياتهم. أعتقد أن علينا ألا نؤطر مفهوما يتوسع في المجالات كل يوم ولكن يمكن بتكثيف الدراسات الاجتماعية الميدانية عن طريق الجامعات ومراكز البحوث المعتمدة ومحاولة تطبيق توصياتها ودعم منفذيها أن يكون لدينا مجتمع ايجابي قادر على تحمل مسؤولياته بل يبادر بتمكين من تعثر أو تأخر. لا غرابة عندها إذا استطعنا محاربة الفقر بضمائرنا وعقولنا وأيدينا بعيدا عن تنظير التوصيات الأممية والقرارات الدولية والسياسات العالمية, إضافة إلى ذلك تحقيقنا الأمن الوظيفي والصحي والغذائي والأمن الشخصي والعام... إلخ. أعتقد أيضا أننا سنخرج من أزمة تعريف مفهوم أو تفنيد مصطلح إلى مباشرة عمل والتأكيد على أن تحت مظلة هذا المفهوم الحديث تمت مبادرات أصيلة في مجتمعنا الإسلامي ومعروفة منذ القدم. وفق الله الجميع لما فيه خير هذا الوطن والأمة جمعاء.