"سنتات" شافيز
أعاد الرئيس الفنزويلي هيوجو شافيز كلمة التأميم إلى دائرة الاستعمال على الساحة النفطية بعد أن غابت عقودا عددا، وذلك في إطار صراعه مع شركة إكسون موبيل، وليعيد بذلك تأكيد عنصر جديد، لم يغب في واقع الأمر كلية وهو السياسة في موازنات السوق النفطية المتقلبة وحقوق الدول المنتجة وسيطرتها على مقاليد الأمور.
وفي حقيقة الأمر فصراع شافيز مع "إكسون موبيل" إنما هو امتداد لصراعه الأكبر مع الإدارة الأمريكية، التي لم تختبئ وراء العبارات الدبلوماسية الفضفاضة للتعبير عن عدم رضائها عن شافيز وسياساته.
والرجل لم يقصر في تبادل العداء بالعداء والسخرية بالسخرية، فواشنطن لم تكف عن تشجيع خصوم شافيز وتحريضهم على استهدافه سواء في شكل انقلاب عسكري أو إضرابات سياسية أو بناء التحالفات لإسقاطه في الانتخابات، وهي معارك خرج فيها منتصرا، وكان يسعى عقبها وفي كل مرة إلى رد الصاع صاعين. وأسس النزاع تتركز على سياسات شافيز الهادفة إلى بناء تحالفات معادية للسياسة الأمريكية في القارة الجنوبية، مستخدما عائدات بلاده النفطية وسيلة لكسب الأصدقاء وتحييد الخصوم، وهو لم يقتصر على أمريكا اللاتينية وإنما غطت رحلاته عواصم عالمية عديدة لا تنظر إليها واشنطون بعين الارتياح.
وانتهز شافيز فرصة فوزه الأخيرة في الانتخابات الرئاسية ليضغط على الشركات الأجنبية خاصة الأمريكية منها أن تفسح المجال لشركة النفط الوطنية الفنزويلية لتحصل على حصة أكبر تعطيها القرار في المشاريع المشتركة، وهو القرار الذي رضخت له الشركات الغربية الأخرى بينما عارضته الأمريكية. وحتى في هذا فإن موقف "إكسون موبيل" اتخذ نهجا صداميا وذلك في الرد على خطوة فنزويلا السيطرة على حصتها برفع قضايا لتجميد أصول تتبع للشركة الفنزويلية في كل من الولايات المتحدة، بريطانيا، وهولندا. وحصلت بالفعل على حكم بريطاني بالتجميد وذلك حتى تسوية خلافاتها، بينما شركة كونوكو فيليبس فيما يبدو تنأى بنفسها عن هذا المنحى الصدامي.
في إطار هذه المعركة المتصاعدة هدد شافيز بأنه سيوقف صادرات بلاده النفطية البالغة مليونا ونصف مليون برميل يوميا ما بين نفط خام ومنتجات مكررة إلى زبونه في الشمال، وهو تهديد يصلح مانشيتا في وسائل الإعلام أكثر منه إجراء عمليا يمكن أن يشق طريقه إلى حيز التنفيذ فببساطة تحتاج فنزويلا إلى سوق تستوعب نفطها ربما بقدر إن لم يكن بأكثر مما تحتاج السوق الأمريكية إلى الإمدادات الفنزويلية فالسوق الأمريكية بالنسبة لفنزويلا هي المكان الذي تقيم فيه العديد من الاستثمارات، خاصة في مجال المصافي التي تعمل في تكرير النفط الفنزويلي الثقيل، ولهذا فالمنفعة والمصلحة متبادلتان.
ويظهر هذا في أن رد فعل السوق كان ضعيفا إلى حد كبير، فمع أن سعر البرميل سجل ارتفاعا في البداية إلا أنه عند بدء التعامل في الأسبوع الماضي تراجع السعر قليلا، الأمر الذي يشير إلى عدم وجود قناعة بجدية تهديدات شافيز وأنها يمكن أن تجد طريقها إلى أرض الواقع، وحتى إذا حدث هذا ستكون ذات أثر مستمر ودائم. وهذا أحد المتغيرات التي تعيشها السوق في الوقت الحالي، إذ تنتقل من حالة الشح والطلب المتنامي على النفط، إلى وضعية تؤثر فيها مؤشرات الضعف الاقتصادي المتكاثرة، ومن ثم بدأ الخوف من انقطاع الإمدادات أو تعثرها في الضعف، وفي مثل هذه الظروف فإن التهديد بقطع الإمدادات يحاكي المثل العربي القديم عن الذي يقطع أنفه ليغيظ خصمه!
هل تمثل محاولة شافيز استعارة ورقة من كتاب التاريخ عن التأميم عودا إلى عهد مضى أم مسعى يعيد تأكيد ما خلص إليه العالم عبر العقود القليلة الماضية أنه من خطأ الرأي تسييس القضايا النفطية رغم أن السياسة تحيط بها من كل جانب، الأمر الذي أعطاها بامتياز الصفة الاستراتيجية مقارنة ببقية السلع الأخرى، حتى بدأ البعض يتحدث في أحيان عديدة أن قانون العرض والطلب لا ينطبق عليها، أو على الأقل بنفس درجة انطباقه على السلع الأخرى.
إن فكرة التأميم تقوم أساسا على استخلاص حقوق الملكية من الأجنبي إلى الوطني وتجيير الأرباح أو العائدات بصورة عامة إلى المصلحة العامة، لكن هذا يفترض بداية حسن الإدارة والإنجاز وتحقيق النتائج التي تمهد الطريق لوضع الكلام الجميل عن المصلحة العامة وحقوق المواطنين موضع التطبيق.
تجارب التأميم لم تنجح إلا في دغدغة المشاعر الوطنية في البداية، لكنها في الغالب حققت فشلا في اختبار الجدارة وتحمل المسؤولية وتطوير الأعمال التي تولت زمامها، وهو ما أدى إلى عودة التعامل مع الشركات الأجنبية بصورة خجولة أحيانا وفتح للباب على مصراعيه أمامها أحيانا أخرى، لأن هناك عنصرين أساسيين هما الاستثمارات المالية والمعرفة التقنية لم تنجح غالبية الشركات الوطنية في توفيرهما.
لكن رغم ذلك ستظل تحركات شافيز الأخيرة عاملا يسهم في تحريك سعر برميل النفط ولو ببضعة سنتات قليلة.