كتب غيّرت العالم

كتب غيّرت العالم

يعد كتاب "ثروة الأمم", بحق, واحدا من الكتب التي قدر لها أن تغير العالم, وأهميته في عالم الاقتصاد تعادل - إن لم تكن تزيد - مؤلف تشارلز دارون الشهير "أصل الأنواع" في ميدان التاريخ البيولوجي. أما آدم سميث (1723- 1790), فهو بحسب علماء الاقتصاد, مؤسس "الاقتصاد السياسي الكلاسيكي", وأصبح كتابه الذي نشر أول مرة عام 1776, المرجع الأول في علم الاقتصاد, الذي أحدث آنذاك ثورة حقيقية في المفاهيم والمناهج, غيرت بشكل جذري الرؤى السابقة, وأزالت من الوجود النظريات الاقتصادية السائدة في ذلك الوقت.
وأول مساهمة قدمها الكتاب هي اعتبار "العمل" المصدر الأساسي للثروة, مخالفا بذلك النظريات الاقتصادية الأخرى والتي كانت تعتبر الأرض والتجارة والفضة والذهب, المصادر الحقيقية للثروة الوطنية, وبحسب سميث فإن ثروة الأمم تقاس بحجم إنتاجها من السلع, والإنتاج هنا هو نتيجة مباشرة لـ "العمل" فلا الأرض تعطي غلالها دون العمل المبذول في الزراعة, ولا تقوم التجارة دون السلعة التي تنتج عن العمل في المصنع أو الأرض.
وقد اهتم سميث بموضوع التخصص في العملية الإنتاجية, وأعلن أن المردود الإنتاجي يمكن مضاعفته فيما لو تم تقسيم العمل إلى مجموعة من الأعمال الجزئية, حيث يتولى كل عامل (أو مجموعة عمال), أداء جزء بسيط ومحدد منها بدلا من قيامه بتنفيذ العمل في جميع مراحله من البداية وحتى اكتمال السلعة.
ويعد "ثروة الأمم" في منهجه, الدعوة الأولى إلى " الليبرالية الاقتصادية" بمعناها المعروف اليوم, و تعبير مباشر عن مصالح الفئة الصناعية في أوروبا في القرن الثامن عشر, التي كانت حينها قوة اقتصادية ثورية في مواجهة الأرستقراطية الزراعية و التجارية التي استنفذت فرصها كقوى دافعة للمجتمع باتجاه النمو الاقتصادي, وبدأت تلعب دور الكابح والمعيق لعملية التطور, وتتجلى المواجهة الصريحة بين هذه القوى في مؤلف سميث, بالدعوات الصريحة إلى إقامة نظام السوق المفتوحة, إلغاء القيود التجارية وقوانين الحماية التي لا تخدم مصالح الصناعيين وتعوق تصريف المنتجات الوطنية في الداخل والخارج.
ميز سميث بين " العمل المنتج" و"العمل غير المنتج", فالأول هو الذي ينتج سلعا ذات قيمة استعمالية ويضيف إلى ثروة الأمة, كما ناقش مفهوم "السعر الطبيعي" و"السعر الاحتكاري" للسلعة, فالسعر الطبيعي للسلعة هو المجموع الفعلي لنفقات الإنتاج والإيجار العقاري للأرض التي أنتجت عليها, زائد الربح على رأس المال المستثمر في العملية الإنتاجية, وأية زيادة فوق هذا السعر تدخل في حيز الربح الاحتكاري, ويكشف سميث عن التلاعب والممارسات الاحتكارية غير المشروعة التي يقوم بها الصناعيون والتجار ويعدها أمرا منافيا لحرية السوق التي يجب أن تتضمن نوعا من الشفافية المعلوماتية التي تحد إلى درجة كبيرة من لعبة الاحتكار التي تهدف إلى رفع قيمة السلعة بطريقة غير مشروعة, كما تتضمن الشفافية كذلك الكشف عن التقنيات الحديثة التي تتوصل إليها هذه الشركة أو تلك، التي تفيد في زيادة الإنتاج, لأن امتلاك التقنيات والاحتفاظ بها, ولو كانت تبدو مبررة قانونيا باعتبارها جهدا بحثيا رعاه وأنفق عليه هذا الطرف أو ذاك, سيقود في النهاية إلى احتكار آخر يبدأ من التكتم على التكنولوجيا الصناعية, وينتهي بمضاعفة النتاج في حين يعجز المنافسون عن مجاراته, وبهذا يصبح التنافس الحر مفرغا من محتواه, ويعلن سميث بتفاؤل رومانسي: على الشركات تقاسم التكنولوجيا خاصتها مع الآخرين, الذين سيقدمون لها في المقابل آخر إنجازاتهم التقنية والنتيجة تقدم مطرد للإنتاج والعلوم في عالم من التنافس النزيه الذي أثبت التاريخ أنه ينتمي إلى عالم الأمنيات.
وحول مفهوم "الربح", لاحظ سميث أن أرباح الشركات التي تستخدم العمالة الرخيصة في المستعمرات, أكبر من أرباح مثيلاتها في القارة الأوروبية, و هو يصنف هذه الأرباح في فئة الأرباح الاحتكارية, فسوق العمالة في بلد كالهند على سبيل المثال, كبيرة جدا من ناحية, وهي واقعة تحت سيطرة شركة وحيدة هي "شركة الهند الشرقية", التي بمقدورها ابتزاز العمال وتخفيض الأجور إلى أقل حد ممكن, الأمر الذي ليس متاحا أمام المنافسين في القارة الأوروبية, وهذا ما دعا سميث إلى اقتراح تأميم "شركة الهند الشرقية", التي يجب أن تؤول ملكيتها في رأيه إلى الحكومة البريطانية, وهو لا يرى في التأميم تعارضا مع الليبرالية الاقتصادية وحرية التجارة, بل ضرورة ينبغي اللجوء إليها لكسر الحواجز التي ستؤدي مستقبلا إلى تدمير"حرية السوق", ألا وهي الامتيازات التي تتمتع بها الشركات الكبرى في المستعمرات, التي تؤدي إلى عدم التكافؤ في الفرص في عملية التنافس مع شركات القارة الأم لصالح الأولى, وتلغي واقعيا مبدأ "الليبرالية الاقتصادية", ويمضي سميث أبعد من ذلك بكثير عندما يدعو إلى فتح أبواب المستعمرات وأسواقها أمام جميع الشركات من كافة الجنسيات بشكل كامل, بحيث تستطيع أية شركة دخول لعبة المنافسة الحرة دون عوائق أو قيود, وهو شكل طموح لليبرالية الاقتصادية, والعولمة بمعناها المعاصر, والتي يعد سميث, أول من أرسى أسسه قبل أكثر من قرنين.

الأكثر قراءة