بين الحقائق والأوهام: قضايا نفطية في الانتخابات الأمريكية
ما بين توقيع الرئيس الأمريكي جورج بوش على قانون الطاقة الهادف إلى تحقيق الأمن والاستقلال في مجال الطاقة الشهر الماضي، وقيامه بأول زيارة له إلى منطقة الخليج في إطار جولته الشرق أوسطية قبل أسبوعين، وراوح سعر النفط بين 90 و100 دولار للبرميل، رغم اتخاذه اتجاها تنازليا فيما بعد، وفي الوقت الذي تدخل فيه الساحة الأمريكية عامها الانتخابي الحاسم، فإن قضايا النفط ستظل مطروحة بصورة أو أخرى، وبكل ما لذلك من انعكاسات على الصناعة تحديدا وعلى الساحة الدولية بصورة عامة، فالولايات المتحدة في نهاية الأمر تستهلك واحدا من كل أربع براميل يستهلكها العالم كل يوم، واقتصادها هو الأكبر عالميا، ومن ثم فاستمرار انتعاشه أو دخوله في مرحلة الكساد سيكون له تبعاته، بل ويتجه إلى أن يصبح قضية أولى مع تدهور الوضع الاقتصادي.
القانون الذي وقعه بوش في الـ 19 من الشهر الماضي الهادف إلى تحقيق الاستقلال والأمن في مجال الطاقة، ينظر إليه البيت الأبيض على أساس أنه أول محاولة جادة منذ 32 عاما للتعامل مع قضايا الطاقة، وتقليص اعتماد الولايات المتحدة على النفط الأجنبي، وهي قضية يسعى كثيرون لربطها بالنقاشات الدائرة حول الأمن القومي ووضع القوة العظمى الوحيدة في العالم.
فمن الملامح الأساسية للقانون أنه يهدف إلى تحسين فاعلية استخدام الوقود خاصة في قطاع النقل، ومن ثم تقليل اللجوء إلى النفط، والتوسع في مجال الطاقة البديلة ومواجهة قضايا التغير المناخي، إذ يعد الوقود الأحفوري من أكبر أسباب تكثيف وزيادة عمليات الانبعاث الحراري.
وبموجب الخطة ستعمل الولايات المتحدة على إنتاج 36 مليار جالون من الإيثانول بحلول العام 2022، وهو ما يعني زيادة خمسة أضعاف لما ينتج في الوقت الحالي، كما يشير القانون إلى معايير في استخدام الأدوات الكهربائية المنزلية والكهرباء في المباني الحكومية والتخلص من بعض أنواع مصابيح الإضاءة المستخدمة حاليا في غضون عقد من الزمان.
ووصفت نانسي بيلوسي زعيمة الأغلبية الديمقراطية في الكونجرس، أي قائدة المعارضة، القانون بأنه يعد فتحا جديدا في اتجاه خفض الواردات من النفط الأجنبي وتقليل عمليات الانبعاث الحراري وزيادة فاعلية استخدام الوقود خاصة في قطاع النقل بما يسهم في تقليل الاستهلاك واللجوء إلى الأسواق الأجنبية.
هذه القضايا ستظل مطروحة بصورة أو أخرى خاصة في هذا العام الانتخابي، ويظهر هذا في التصريحات المتناثرة حولها من المرشحين البارزين حتى الآن. فرغم توقيع بوش على قانون يحمل صفة الاستقلال في مجال الطاقة، إلا أن المرشح الجمهوري جون ماكين يعلن: "نحن في حاجة إلى استقلال في ميدان الطاقة" والمرشح الديمقراطي باراك أوباما يدعو إلى توفير قيادة جادة للبدء في طريق طويل لتحقيق الاستقلال في مجال الطاقة.
ويرى بعض المحللين أن مثل هذه التصريحات يمكن أن تكون مفيدة في حملة انتخابية، لكن فكرة أن الولايات المتحدة يمكن أن تجد وسيلة للتخلي عن صناعة بحجم خمسة تريليونات دولار في العام، تبدو غير قابلة للتصديق أو التنفيذ، كما يقول روبرت برايس الزميل في معهد أبحاث الطاقة ويعمل في كتاب يتوقع صدوره قريبا يتناول بالانتقاد والتحليل فكرة الاستقلال في مجال الطاقة.
وتناول برايس بعض هذه الأفكار بالنقد، ومن ضمنها الحملة التي يقودها جيمس ويلسي مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية الأسبق بهدف تحقيق الاستقلال، داعيا في إحدى مقالاته أي مستهلك يقوم بتعبئة خزان الوقود في سيارته النظر في مرآة السيارة ذاتها لمعرفة من يقوم بالإسهام في تمويل عمليات الإرهاب، والإشارة إلى أن الأموال التي يشترى بها النفط تذهب إلى تمويل الإرهاب. ومع أن ويلسي معروف عنه أنه من ضمن المحافظين الجدد، إلا أن أفكاره هذه تجد صدى لها لدى الكثير من الليبراليين.
ويذكر برايس حقيقة بسيطة أن أكبر دولتين موردتين للنفط إلى السوق الأمريكية هما كندا والمكسيك، ولا يمكن الادعاء أن أي منهما تعد ملاذا للإرهابيين. ويضيف أن الإرهاب تكتيك قديم موجود على الساحة الدولية حتى قبل بزوغ المرحلة النفطية، وهو لا يحتاج إلى كميات ضخمة من البترودولارات، ويكفي أن كل عملية 11 أيلول (سبتمبر) كلفت نحو نصف مليون دولار، كما أن أموال النفط ليست وحدها مصدر تمويل الإرهاب، وإنما هناك غسيل الأموال والمخدرات كما يقول الجنرال في المارينز ولسون الذي قاتل في العراق وكتب كثيرا عن هذه القضية.
وفي الإطار نفسه هناك بعض الآراء التي ترى أن العائدات النفطية تلعب دورا معطلا لعمليات الإصلاح السياسي والاقتصادي في الدول النامية، وبالتالي تجد متاعبها سبيلها إلى الولايات المتحدة وغيرها في شكل عمليات إرهابية. ومن أكثر المنافحين عن هذا الرأي الكاتب توماس فريدمان، الذي يقول إنه عندما تقل العائدات النفطية تتسارع خطى الإصلاح من الجزائر إلى إيران.
ويقول المنتقدون إن الأمر ليس بهذه البساطة، ففي الفترة بين عامي 1986 و2000 ظلت أسعار النفط في مستوى يقل عن 20 دولارا للبرميل، بل وفي عام 1999 تراجعت إلى نحو 11 دولارا للبرميل. وكانت هذه فترة اختبار كافية لتوضح أنه لم تحدث هناك توجهات إصلاحية خلال هذه الفترة بسبب ضعف أسعار النفط.
ويتناول برايس خطة إنتاج 36 مليار جالون بحلول العام 2022، وهو ما يبدو نقلة كبيرة للوهلة الأولى، لكن واقع الأمر يشير إلى خلاف ذلك، إذ إن الولايات المتحدة تستهلك 320 مليار جالون من النفط في العام وتستورد منها 200 مليار. وعليه فإن الطاقة المتجددة لن تكفي حاجات الاستهلاك المتصاعدة حتى لو تم تحويل كل المساحات المزروعة بفول الصويا، فإنها ستوفر فقط 1.5 في المائة من الاحتياجات، كما أنها إذا قامت بتخصيص كل المحصول من الذرة الشامي لإنتاج الإيثانول، فإنه يمكنها فقط مقابلة 6 في المائة من الاحتياجات الأمريكية.
وبرغم الحماس الدافق للإيثانول وإنتاجه، إلا أن أي تناول عملي يشير إلى أن هناك حاجة إلى فترة 13 عاما كي يمكن إنتاج مليار جالون إيثانول من الذرة الشامي في العام. وتصرم عقدان من الزمان قبل أن يبلغ الإنتاج المحلي من الإيثانول خمسة مليارات جالون في العام 2006، لكن القرار الأخير الذي وافق عليه الكونجرس واعتمده بوش يتطلب إنتاج كميات مضاعفة وفي غضون 15 عاما فقط، وهو ما يرى برايس صعوبة حدوثه.
وهناك أيضا النظرية التي تقول إنه بعدم شراء النفط من دول منتجة مثل إيران أو فنزويلا أو حتى السعودية، فإنه يمكن تجفيف منابع التمويل لهذه الدول، التي لبعض الدوائر وأحيانا الإدارة مآخذ عليها، لكن سوق النفط لا تعمل بهذه الطريقة، كما يقول برايس، فهي أصبحت سوقا عالمية، المشترون يبحثون دائما عن أفضل وأرخص سعر. والشحنة النفطية من أي ميناء شرق أوسطي لا تشتريها مصفاة أمريكية، يمكن أن ينتهي بها المطاف في سنغافورة أو شنغهاي مثلا، ولهذا أصبح السعر عالميا وينطبق على الكل وتؤثر فيه عوامل العرض والطلب من نواحي الخام والمنتجات المكررة أو حتى وضع المخزونات الأمريكية الذي يتحرك أسبوعيا ساحبا معه سعر البرميل صعودا وهبوطا، إلى جانب العوامل الأخرى الجيوسياسية مثل الاضطرابات في نيجيريا أو المواجهة الغربية مع إيران.
ولهذا فإن الحديث عن تحقيق استقلال في مجال الطاقة بسبب وقف الاستيراد يبدو أقرب إلى الأسطورة من أي شيء آخر. ويستدل رايس بتجربة العام 2005 عندما ضرب إعصارا كاترينا وريتا المرافق النفطية في المناطق الجنوبية في خليج المكسيك، ما أدى إلى تعطيلها، لكن المستهلكين لم يشعروا بعمق الأزمة، وذلك بسبب اللجوء إلى الاستيراد، حيث ارتفع حجم الواردات من البنزين بالنصف إلى مليون ونصف المليون برميل يوميا في منتصف تشرين الأول (أكتوبر)، أي بعد مضي بضعة أسابيع على الإعصارين، وهو ما يشير إلى ترابط وثيق مع السوق العالمية، وهي حقيقة ستظل مستمرة. فإلى جانب البنزين والمنتجات المكررة المستوردة، فإن السوق الأمريكية تستورد كذلك النفط الخام من أنجولا، ووقود الطائرات من كورية الجنوبية، والغاز الطبيعي من ترينيداد، والفحم من كولومبيا، واليورانيوم من أستراليا، وهو ما يؤكد الطبيعة العالمية للسوق ويجعل من الحديث عن تحقيق استقلال من الأسواق الأجنبية أضغاث أحلام.