مقاتلون في سبيل الله

مقاتلون في سبيل الله

لا تغيب عن ذاكرتي تلك القصة التي اعتادت جدتي روايتها على أسماعنا, عن لقاء ريتشارد قلب الأسد بصلاح الدين الأيوبي, عشية معركة حطين, فقد استل الملك الإنجليزي العملاق سيفه الطويل, وهوى به على المنضدة الحديدية فقطعها نصفين وهو يقول: "هكذا..بمثل هذه القوة سنلقاكم غدا في المعركة", ابتسم صلاح الدين وهو يخرج منديله الحريري, ويلقيه عاليا في الهواء ثم وبضربة خاطفة من سيفه يقطعه إلى قسمين متساويين, ويلتفت إلى ريتشارد قائلا: "ونحن .. بمثل هذه الحنكة والإتقان سوف نلقاكم".. وتتوقف جدتي عن الكلام قليلا لتنظر في وجوهنا الصغيرة المشدودة إلى الحكاية, ثم تتابع: وبعد خروج صلاح الدين من الغرفة, حاول ريتشارد مرة تلو المرة, قطع المنديل الحريري دونما جدوى, فاستشاط غضبا وانقلب إلى المنضدة يضربها بسيفه كالمجنون.
ورغم أن ريتشارد لم يكن في فلسطين عندما جرت موقعة حطين, ولم يقابل صلاح الدين وجها لوجه ولو لمرة واحدة أثناء السنتين اللتين قاد خلالهما الحملة الصليبية الثالثة, فإن قصة جدتي كانت صحيحة في جوهرها, وقد لخصت بدقة أسلوب صلاح الدين وتكتيكاته العسكرية, بعد أن أدرك عدم جدوى المواجهة المباشرة مع خصم يفوقه قوة, فاتبع ضده سياسة اضرب واهرب, ملاحقا جيش الفرنجة لحظة بلحظة, خلال رحلته الطويلة من عكا إلى القدس, مهاجما مؤخرة جيش الصليبيين ومجنباته برماة خيالته السريعة, ومدمرا جميع القلاع والحصون التي تقع في طريقهم, ليحول حياتهم إلى شقاء ومسيرهم إلى عذاب مستديم, وأخيرا تم استنزاف جيش العدو الذي توقف تماما على بعد ثلاثة أميال فقط من القدس, ليجد أن المسلمين قد أحرقوا الغلال وسمموا الآبار في دائرة واسعة تحيط بالمدينة التي احتفظوا بداخلها بحامية صغيرة, فيما راحت نخبة قوات فرساهم تدور مناورة في مؤخرة الجيش الصليبي, مهددة إياه بالتطويق فيما لو فكر بحصار القدس, وكانت النتيجة أن تردد ريتشارد ودب الخلاف بين قادته, وعاد الجيش بأكمله منسحبا دون قتال, وانتصر الحرير على الحديد,والعقل على القوة, ونجت القدس من الاحتلال!!.

سيرة عملاقين:
ولد صلاح الدين لعائلة كردية جاءت من شمال أرمينية, لتستقر في العراق, وكان والده لحظة مولده ( 1137م ) واليا على تكريت, انتقلت العائلة بعد ذلك إلى الموصل, حيث عمل أبوه نجم الدين وعمه أسد الدين شيركوه تحت إمرة القائد العربي المحنك عماد الدين زنكي, الذي حرر الرها من الصليبيين, ثم بإمرة ابنه نور الدين, الذي تابع مشروع أبيه في تحرير المشرق العربي من الفرنج, وأرسل صلاح الدين برفقة عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر, فدخل القاهرة دخول منتصرين, وبعد وفاة أسد الدين بعد أقل من شهرين, تولى صلاح الدين الشاب الحكم في مصر, وبعد وفاة نور الدين, خرج إلى سورية فاستولى على الشام وأعلن نفسه سلطانا على سورية ومصر, ثم تابع العمل على توحيد المملكة الإسلامية فضم حلب والموصل عام 1186, وأصبح بذلك يحيط بالمملكة الصليبية التي لم يعد لها منفذ سوى البحر, وصار من الممكن التفكير في تحرير الأرض العربية من الحكم الأجنبي.
أما ريتشارد قلب الأسد, فيصغر خصمه اللدود بعشرين عاما (1157), وقد ولد في عائلة ملكية عريقة النسب, أبوه هنري الثاني ملك إنجلترا وأحد أقوى الملوك الأوروبيين, أما والدته إليانور فهي ابنة وليم التاسع دوق أكيتان الفرنسية, أحد كبار المشاركين في الحملة الصليبية الأولى. نشأ الأمير, في بيئة تعنى بالفروسية بالدرجة الأولى, واكتسب مهاراته في القيادة في سن مبكرة عندما أوكل إليه أبوه إخضاع البارونات المتمردين في مملكته, فدك حصونهم وصادر أموالهم وذاع صيته بشكل مبكر كفارس شديد البأس وقائد ميداني ناجح. وكانت الخلافات مع أبيه وأخوته حول وراثة العرش دافعا قويا كي يخوض ضدهم معارك شرسة كسبها دون عناء, وانتهت بحصار والده هنري في مسقط رأسه لومانز فأحرق المدينة وأجبر أباه على إعطائه الحق في العرش, مما تسبب في موته كمدا بعد ذلك بفترة قصيرة. بعد تتويجه ملكا قرر ريتشارد المشاركة في الحملة الصليبية الثالثة, وانطلق إلى فلسطين على رأس أسطول كبير, فقصد أولا صقلية, حيث خلع ملكها بالقوة ثم أعاده إلى العرش بعد أن أقسم له يمين الولاء. وكانت الأعمال العنيفة التي مارسها في كل من كريت وقبرص سببا في كره الأهالي الشديد لريتشارد وجنده. واكتسب لقبه الشهير قلب الأسد من قسوته التي وصلت إلى درجة أن الأمهات القبرصيات كن يخوفن أولادهن باسمه. ورغم شجاعته وقوته الفائقة التي أصبحت أقرب إلى الأسطورة, لم يستطع ريتشارد على عكس خصمه من كسب محبة حلفائه, فانتهى به الأمر إلى سجونهم خلال رحلة عودته إلى إنجلترا.

الشرارة: كان صلاح الدين بعد استكمال توحيد الدولة العربية, يضع نصب عينيه تحرير الأراضي التي تقع تحت الاحتلال الصليبي وعلى رأسها القدس كهدف استراتيجي بعيد المدى, لكن قدر للأحداث أن تأخذ منحى مفاجئا, بعد قيام حاكم حصن الكرك ريجنالد دي شاتيون, بمهاجمة قافلة للحجاج المسلمين, رغم وجود هدنة بين المعسكرين, فأخذ الأموال, وقتل الحراس, وساق جميع المسافرين أسرى, ومن بينهم أخت صلاح الدين الذي حاول حل المشكلة بالطرق الدبلوماسية وتذكير غي ملك القدس بشروط الهدنة دون جدوى, فقد عجز غي عن التأثير بتابعه المتنمر ولم يبق هناك سوى الحل العسكري.
وبدلا من التوجه إلى حصن الكرك المنيع حيث تحتجز القافلة, اتخذت حملة صلاح الدين منحى آخر, فقد قرر الضرب في عمق المملكة الصليبية حيث لايتوقع أحد ظهوره ومباغتة النقاط الدفاعية الضعيفة بهجوم مفاجئ, وحدثت معركة مع إحدى كتائب فرسان الفرنجة قرب الناصرة, في موقع يسمى "الأقحوانة", استطاع صلاح الدين فيها استدراج الفرسان الذين انقضوا دون تفكير ليجدوا أنفسهم محاصرين تماما بالقوات الإسلامية, فأبيدت الكتيبة بالكامل, وحقق صلاح الدين بذلك نصرا مزدوجا, فقد قضى على نخبة فرسان العدو وأثار خصاما عنيفا بين قادتهم الذين انقسموا على أنفسهم وراحوا يتبادلون الاتهامات بالخيانة والغدر.

حطين.. بداية الانتصار: أدرك صلاح الدين أن عليه استثمار انتصاره في الأقحوانة قبل أن يفيق عدوه من ذهوله, فحشد جيشا كبيرا من ثلاثين ألف مقاتل من بينهم اثنا عشر فارسا, وتقدم إلى شرق طبريا مهاجما الحصون ونجح في استفزاز الفرنجة الذين توجهوا على عجل لملاقاته. وتمكن القائد العربي الذي سبق خصومه في السيطرة على مصادر المياه, من إرغامهم على التمركز في بقعة لا ماء فيها بالقرب من حطين. وفي محاولة يائسة لبلوغ مياه بحيرة طبريا وقع الصليبيون في الفخ المعد لهم, وحوصرت قواتهم فوق هضبة, أمر صلاح الدين بإضرام النار في أعشابها الجافة, وأحاطت سحب الدخان بالمحاصرين الذين أنهكهم العطش والحر, فاندفع فرسانهم لفك الطوق وكانت النتيجة وقوعهم بين فكي كماشة مهلكة, انتهت المعركة بسرعة بقتل وأسر معظم الجيش الصليبي, وكان من بين الأسرى جي ملك القدس وريجنالد دي شاتيون صاحب الكرك, الذي قام السلطان بقطع رأسه بيده.

الطريق إلى القدس: تحطم العمود الفقري للجيش الصليبي في حطين, وأصبح من الضروري الآن استثمار هذا النصر بسرعة وفاعلية..تحرك صلاح الدين بسرعة واستولى على كل من عكا وبيروت وصيدا, وصمدت صور بسبب قوة تحصينها وكثرة المدافعين عنها, فتابع مسيرته إلى الجنوب محررا فيسارية وأرسوف ويافا, وتوقف لحصار عسقلان بقسم من جيشه, فيما تابع الاستيلاء على الحصون والمدن في غزة والنطرون والرملة والداروم, واستسلمت عسقلان أخيرا وبات طريق القدس مفتوحا الآن.

المدينة المقدسة: سقطت القدس في يد الصليبيين عام 1099م, ودخل فرسانهم المدينة بعد خرق أسوارها ليدشنوا انتصارهم بمذبحة رهيبة راح ضحيتها 40 ألفا من المسلمين, أما اليهود الذين تجمعوا في ساحة الكنيس فقد أحرقوا أحياء,وسط تهليل ورقص الفاتحين الذين بدأوا بعد ذلك بنهب مسجد عمر قبل إحراقه, ودمروا قبر إبراهيم عليه السلام, وقد كتب أحد مؤرخيهم عن هذه الأحداث بفخر: "في الهيكل وموقع سليمان, كان بوسع الرجال الغوص في الدماء إلى ركبهم.... وقد كان هذا عملا عظيما, وجزاء من عدالة الله, أن يمتلئ ذلك المكان بدماء الكفرة, لأنه عانى طويلا أعمالهم الفاجرة".
والآن يقف صلاح الدين بجيشه المنتصر على أبوابها, يتفقد الأسوار ويستطلع أخبار المدافعين, لقد جاءت أخيرا اللحظة التي حلم بها طويلا..لحظة تحرير المدينة المقدسة التي ظلت 88 سنة تحت حكم الصليبيين.
بعد يومين من الحصار وضرب الأسوار بالمنجنيق تمكن المسلمون من فتح ثغرة في الأسوار بالقرب من باب دمشق, واستسلم المدافعون بعد أن أعطاهم صلاح الدين الأمان رغم أنه كان قادرا على أخذ المدينة عنوة, ودخل المسلمون المدينة سنة 583هـ (1187م), في ذكرى المعراج, وبعكس ما فعله الصليبيون عام 1099, لم تكن هناك أية مذابح أو أعمال قتل للمدنيين, ورفض صلاح الدين اقتراح بعض قادته بتدمير كنيسة القيامة, التي فتحت أبوابها للمصلين بعد ثلاثة أيام من دخول المسلمين, وبدأ سكانها من الفرنجة الجلاء عنها تحت حماية الجيش الإسلامي.
لقد كان تحرير القدس, باعتراف مؤرخين الفرنج أنفسهم نموذجا للفتح الرحيم, والتسامح تجاه المهزومين, رفع شأن صلاح الدين عاليا كفاتح عظيم الخلق قلما عرف له التاريخ ندا, في الوقت نفسه وجه بعض المؤرخين من المسلمين نقدا قاسيا لسياسة اللين التي اتبعها تجاه المقاتلين الفرنج, فقد كتب ابن الأثير: "إن صلاح الدين هو الذي جهز إلى صور جنود الفرنجة وأمدها بالرجال والأموال من أهل عكا وعسقلان والقدس... كان يعطيهم الأمان ويرسلهم إلى صور, أفلا يمكن القول إن صلاح الدين نفسه هو الذي نظم دفاعات صور ضد جيشه".

الحملة الصليبية الثالثة: بعد تحرير القدس هب البابا للدعوة إلى حملة صليبية ثالثة, مستنفرا ملوك وشعوب أوروبا, وفي فرنسا وإنجلترا فرضت "ضريبة صلاح الدين", التي تعادل عشر الدخل السنوي على جميع السكان, وخرجت حملتان كبيرتان باتجاه المشرق العربي الأولى بقيادة الإمبراطور الألماني بارباروسا الذي غرق خلال عبوره أحد الأنهار في آسيا الصغرى, وتفرق جيشه الكبير, أما الثانية فكانت بقيادة كل من ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا وفيليب أغسطس ملك فرنسا.
وصل ريتشارد إلى عكا المحاصرة من قبل الصليبيين عام 1191, واشترك مباشرة في الأعمال القتالية التي انتهت بسقوط المدينة البطلة بعد أن صمدت عامين تحت الحصار, وأول مأثرة فعلها بعد سيطرته على المدينة كانت ذبح 2700 جندي مسلم اقتيدوا خارج أسوار المدينة وقتلوا بحد السيف, بحجة تأخر صلاح الدين عن الوفاء بشروط معاهدة استسلام المدينة, وهذا الحدث الدامي تسبب في انقلاب جذري في سياسة صلاح الدين المتسامحة مع أسرى الفرنج الذين لم يعودوا يأملوا في أية رحمة من السلطان.
كان الهدف الأساسي للحملة الصليبية الثالثة هو استعادة القدس بأي ثمن, وقد أدرك صلاح الدين بحدس القائد, عدم جدوى المواجهة المباشرة مع جيش الفرنجة, واتبع أسلوب حرب العصابات في مهاجمة مجنبات ومؤخرة جيوشهم الزاحفة جنوبا بمحاذاة البحر في طريقها إلى القدس, وحدثت معارك عنيفة لكنها غير حاسمة, قاتل فيها الطرفان بضراوة وتحد, لكن صلاح الدين الذي كان يقاتل في أرض صديقة كان يستطيع بسهولة تعويض خسائره من الجند, من السكان المحليين,في حين بقي جيش ريتشارد المحصور في رقعة ضيقة بمحاذاة البحر معرضا دون رحمة لهجوم لا يتوقف من خيالة المسلمين السريعة التي كانت تستهدف جياده بسهامها وتحرم الغزاة من أهم وسيلة قتالية لديهم.. اتبع صلاح الدين سياسة الأرض المحروقة لحرمان الفرنجة من التموين, ودمر جميع الحصون الواقعة على خط سير جيش العدو. أما ريتشارد, فبعد استراحة في عسقلان توجه بجيشه أخيرا إلى القدس, وهناك تحت أسوارها, أدرك الملك وللمرة الأولى أن الحل الوحيد المتاح أمامه هو طلب التفاوض, فقد دمر صلاح الدين المنطقة المحيطة بالمدينة وسمم الآبار وأجلى المقاتلين عن القدس باستثناء حامية صغيرة, في حين راحت خيالة المسلمين تجول بعدتها وعتادها خلف الجيش الصليبي استعدادا للانقضاض عليه من الخلف, لقد أمسى حصار القدس بمثابة انتحار للمهاجمين.
وأخيرا انتصرت سياسة صلاح الدين, وتم توقيع الاتفاق الذي انسحب الصليبيون بموجبه مغادرين القدس وسط هتافات سكانها ونظراتهم المذهولة.
غادر ريتشارد إلى إنجلترا ليقع في أسر دوق النمسا, وأمضى سنوات في السجن قبل أن يستطيع العودة إلى الوطن, وتوفي صلاح الدين بعد ذلك بشهور لتكتب نهاية واحدة من أعظم الملاحم البطولية في العصر الوسيط.

الأكثر قراءة