اتفاقيات الغاز تعزز مكانة روسيا في سوق الطاقة العالمية
يبدو أن الزعيم الروسي فلاديمير بوتين يعمل حثيثا على وضع بصماته في ميدان صناعة النفط والغاز قبل أن يترك مقعده في رئاسة الجمهورية خلال بضعة أشهر، وأن النجاح الذي حققه في إحكام سيطرته على تلك الصناعة داخل بلاده بدأ يماثله نجاح آخر في الخارج وفي ساحة تزداد أهمية وحيوية وهو ميدان الغاز الطبيعي.
ففي أواخر الشهر الماضي نجح بوتين في حمل كل من كازاخستان وتركمانستان على التوقيع على اتفاق لنقل الغاز من بلديهما، الأمر الذي يعطي روسيا فرصة عظيمة للتحكم في صادرات إقليم بحر قزوين إلى الأسواق العالمية، وهو ما يكلل جهد عامين من الزيارات التي قام بها بوتين إلى رصيفيه نور سلطان نزار باييف رئيس كازاخستان وجربانجولي بيرديمخميدوف رئيس تركمانستان، نجحت في النهاية في تأمين إمدادات إضافية لشركة الغاز الروسية العملاقة "غازبروم"، التي تقدم إلى العديد من الدول الأوروبية نحو ربع احتياجاتها من الغاز، بل والبعض يكاد يعتمد على تلك الإمدادات بصورة كلية.
خط الأنابيب هذا الذي سيمر عبر روسيا يعد ضربة لخطتين أمريكية وأوروبية، حاولتا جاهدتين دفع الدولتين إلى اللجوء إلى خط لا يمر عبر روسيا أو إيران. الاتحاد الأوروبي كان أكثر طموحا ووضع خطة لبناء خط يمتد على مسافة ألفي ميل يمتد من تركيا عبر البلقان ووسط أوروبا إلى النمسا يمكن لكل من كازاخستان وتركمانستان، بل وحتى إيران، استخدام الخط وتزويده بالإمدادات اللازمة، ولهذا استغرق الخط فترة أطول في المفاوضات للتوصل إلى اتفاق، وهو ما تطلب تدخل بوتين عدة مرات وقيامه بزيارات للدولتين، كما أن أليكسي ميللر المدير التنفيذي لشركة غازبروم أمضى أشهرا طويلة في التفاوض على التفاصيل خاصة في تركمانستان. ونتيجة للاتفاق فإن روسيا ستدفع 130 دولارا لكل ألف متر مكعب من الغاز الطبيعي بدلا من 100 دولار كانت تدفعها سابقا، وفي النصف الثاني من هذا العام سيرتفع السعر إلى 150 دولارا لكل ألف متر من الغاز.
إلى جانب الأسعار المغرية التي قدمتها روسيا، فإن صلاتها القديمة بالمنطقة عندما كانت جزءا من منظومة الاتحاد السوفياتي وعملها في بناء شبكة خطوط الأنابيب وتطويرها لها أسهمت في أن تفتح الدولتان نوافذهما، خاصة وعامل الجغرافيا يجعل الخيارات محدودة. وقد جربت دول بحر قزوين متاعب الانغلاق عندما كانت روسيا تمر بفترة قلاقل إبان حكم الرئيس بوريس يلتسن التي أعقبت تفكك الاتحاد السوفياتي وطوال عقد التسعينيات. ويمكن للإمدادات الغازية من هذه المنطقة أن تصل إلى الأسواق في غضون ثلاث سنوات.
وتكتسب الخطوة أهميتها بسبب وضع السوق النفطية، إذ وصل سعر البرميل إلى معدلات قياسية، في الوقت الذي تقل فيه احتمالات حدوث اكتشافات جديدة، ما يعزز الاتجاه إلى البحث عن بدائل تتيح فرصا أمام الشركات الغربية الباحثة عن فرص استثمارية، لذا يرشح ميدان الغاز ليكون مجال التركيز بصورة متزايدة لتلبية الطلب المتصاعد.
ووفقا لتقرير إدارة معلومات الطاقة عن التوقعات المستقبلية بين عامي 2004 و2030 نشرته العام الماضي، فإن معدل استهلاك الغاز الطبيعي سيزيد خلال هذه الفترة بنحو 1.2 في المائة سنويا في دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، التي تضم معظم الدول الصناعية الغربية والآسيوية، بينما سيزيد الاستهلاك خارج هذه المجموعة بأكثر من ضعف أو 2.6 في المائة سنويا، لكن هذه المنطقة توفر 90 في المائة من حجم الزيادة العالمية خلال هذه الفترة.
وتشعر دول منظمة التنمية بقلق إذا استمرت الاتجاهات الحالية في الإنتاج والاستهلاك، إذ تتسع الفجوة بين ما تنتجه وتستهلكه. ففي عام 2004 كانت هذه المنطقة تنتج 40 في المائة من الغاز وتستهلك 52 في المائة. وفي العقد الثالث سيتراجع الإنتاج إلى 27 في المائة، بينما يقدر للاستهلاك أن يكون في حدود 43 في المائة.
الاستهلاك العالمي يتوقع له أن يرتفع من 100 تريليون قدم مكعب في 2004 إلى 163 تريليونا بنهاية العقد الثالث من هذا القرن. وتشكل الاستخدامات الصناعية وتوليد الطاقة الكهربائية الجزء الأكبر من الاستهلاك، هذا إلى جانب الاستهلاك المنزلي طبعا. ومع أن القطاع الصناعي كان يستهلك ما نسبته 44 في المائة في 2004، إلا أن النسبة يتوقع لها أن تتراجع بنسبة طفيفة إلى 43 في المائة في 2030، وذلك بسبب الأسعار المتصاعدة.
وسجلت الاحتياطيات العالمية زيادة في العام الماضي بلغت 71 تريليون قدم مكعب على ما كانت عليه في العام الأسبق. وجاءت الزيادة في الاحتياطيات من قبل كازاخستان التي أضافت إلى احتياطياتها 35 تريليون قدم مكعب، أو نحو 54 في المائة فوق احتياطياتها السابقة، تركمانستان التي أضافت 29 تريليونا، أو 41 في المائة والصين 27 تريليونا، نحو 50 في المائة فوق احتياطيها المعروف. وحتى الولايات المتحدة أضافت إلى احتياطيها 12 تريليون قدم مكعب، ما يعادل 6 في المائة، وهي أفضل زيادة تحققها منذ العام 1970.
لكن في الوقت ذاته هناك تراجع في احتياطيات هولندا بنحو 12 تريليونا، ترينداد وتاباجو سبعة تريليونات قدم، الأرجنتين ثلاثة تريليونات، ونيجيريا مثلها.
على أن ميدان الصناعة الغاز يتوقع له أن يشهد هذا العام اهتماما ونشاطا أكبر بسبب ظروف السوق النفطية وقلة فرص الاستثمارات بالنسبة للشركات الغربية، التي تحقق أرباحا عالية بسبب الأسعار المرتفعة، خاصة مع توافر التقنية.
وتخطط شركة شيفرون مثلا إلى أن يتقدم نشاطها في ميدان الغاز لاحتلال مراتب متقدمة خلال فترة العقدين المقبلين، وأن ترتفع مساهمة إنتاجها اليومي من الغاز من 30 في المائة إلى 45 في المائة من حجم إنتاجها من المواد الهيدروكاربونية، وهي لديها حاليا نحو 140 تريليون قدم مكعب من الغاز، وفق ما أعلن إبان الاجتماع السنوي للشركة في آذار (مارس) الماضي. وتمكنت "إكسون موبيل" من إضافة 1.7 مليار برميل من الغاز المكافئ إلى قاعدة احتياطياتها من النفط والغاز في قطر قبل أكثر من عامين.
وأسهمت التطورات في تقنية الغاز المسال في توفير فرص تلائم الشركات الضخمة، خاصة والتوقعات تشير إلى أن السوق في هذا المجال ستتمدد ليتسع إلى 70 مليار قدم مكعب عام 2030 من 15 مليارا قبل سبعة أعوام، وهو ما يمكن أن يساعد الشركات العالمية على إقامة سوق دولية تتطلب إقامة مرافئ إضافية وناقلات وغير ذلك مما يحتاج إلى استثمارات ضخمة، وهو ما تشعر الشركات الغربية أنه يمكن أن يضعها في موقف تنافسي أفضل مقارنة بالشركات الآسيوية وتلك الوطنية في الدول المنتجة.
لكن المنافسة لن تكون سهلة، وشركة مثل غازبروم تلعب دورا رئيس في دول أوروبا الغربية وتسعى بنشاط حققت فيه نجاحات ملحوظة أن تصل إلى المستهلكين مباشرة عبر سلسلة اتفاقات تمكنت من إبرامها في العديد من دول أوروبا الغربية.
لكن في الوقت ذاته فإن البعد السياسي لصناعة الغاز يتوقع له أن يبرز بصورة أوضح خاصة والعام الماضي شهد لقاءات وترديد لأحاديث حول إقامة منظمة للدول المصدرة للغاز على غرار منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك)، لكن الوقت لا يزال مبكرا لتحقيق اختراقات في هذا الجانب.