إن المكان ـ وإن ضاق ـ ما زال فيه متسع

إن المكان ـ وإن ضاق ـ ما زال فيه متسع

" في ظل الأجواء الغائمة التي تبدو للوهلة الأولى غير مشجعة لأي جهد بشري، تطوف هذه الزاوية كل أسبوع ببقاع متفرقة دون أن تتقيد بحدود جغرافية لترصد اختلالات متنوعة تدرسها وتعالجها أملا في أن يكون الخلل مفتاحا للصواب".

إن حديثي لهذا اليوم ليس موجها إلى أولئك الذين أشبه ما يكونون بلاعبي القمار في سوق الأسهم السعودية، ولا إلى رجال الأعمال وأصحاب الثروة الهائلة الذين لا يشعرون بالمسؤولية الاجتماعية ولا بأخلاقيات المهنة التي يمتهنونها، ولا إلى تجار الكلمة في الإعلام المسموع والمرئي والمقروء، ولا إلى المعلمين الذين أضاعوا أمانة الرسالة التي أوكلت إليهم، ولا إلى بعض خطباء المساجد الذين يعانون أعراضا للمرض تختلف عن حقيقة المرض، ولا إلى المتشبثين بالسلطة الوظيفية والامتيازات الشخصية الذين تتعامى أعينهم عن أمراض المجتمع أو يفلسفونها لصالح الوضع الراهن، ولا إلى المواطن الذي يزدري العمل اليدوي، ولا إلى مرتادي الاستراحات الليلية، ولا إلى كل من انغمس في تعاطي كل السلبيات المرفوضة في مجتمعنا، ومن هنا تأتي صعوبة حديثي اليوم. إن حديثي اليوم موجّه إلى الشريحة المتبقية صاحبة الضمير الحي التي تعرف جيدا العلل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة في مجتمعنا، ونتيجة لأسباب متعددة سارت في تيار الابتعاد عن تحليل مصاعب المجتمع ومطالبه، وتم وصفها بأنها تقف جانبا من التأثير الإيجابي. حديثي اليوم موجّه إلى أصحاب العقول النيرة الذين يعد العقل لديهم هاديا وسبيلا والذين يتمتعون بطول النفس والقدرة على الصبر.
إنني أكاد أزعم أن المجتمع السعودي في هذه الفترة التاريخية يعيش حالة من التناقض في كثير من الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتشابكة. من هذه التناقضات ازدواجية الانتماء وعدم القدرة على تحديد هويتنا من العالم الذي نعيش فيه، فهناك من يضع المملكة بسبب دخلها القومي المرتفع والثروة المالية الهائلة في مصاف الدول المتقدمة، في حين هناك من يعتقد ـ وهم كثر- بأن المملكة تمتلك من عناصر التأخر الشيء الكثير لأسباب عديدة ومتنوعة. من هذه الأسباب اعتمادها الكبير على مصدر وحيد للدخل هو البترول الذي أصبح اليوم في مهب الريح بسبب الضغوط العالمية لإيجاد بدائل أخرى غير النفط أو اكتشاف نفوط عالمية في مناطق أخرى من العالم. إن الإنسان يصاب بالدهشة وعدم الفهم عندما ينظر إلى الفوائض المالية والأرقام الخيالية التي تضمنتها ميزانية عام 2008م، ومع ذلك نرى بأم أعيننا مظاهر من عناصر التأخر الاجتماعي والاقتصادي كارتفاع معدلات البطالة بين الشبان والشابات مقترنة بسيطرة كاملة للعمالة الأجنبية غير المؤهلة على القطاعات الاقتصادية المختلفة. كما أن المردود المالي للحاصلين على وظائف من الشبان والشابات حديثي التخرج العاملين في مؤسسات الدولة وفي القطاع الخاص صغير جدا لا يتناسب مع العمل والجهد الذي يبذلونه. ناهيك عن الجهل المتراكم من قبل الكثيرين في فهم متطلبات التنمية الحقيقية المرتبطة بالعلم، والضعف وعدم الشعور بالمسؤولية الوطنية، والخلل في توزيع الدخل بين أفراد المجتمع، وتخلف الإدارة والتشبث بالروح الروتينية التقليدية، والإنفاق الحكومي غير المنتج في جزء كبير منه، والإنفاق البذخي المتزايد من قبل الأفراد على السلع والبضائع المستوردة، والزيادة في المضاربات العقارية وفي سوق الأسهم مقابل انخفاض في معدل الاستثمار الذي يخلق طبقة عاملة محلية وصناعات ذاتية متطورة.
وإذا أردنا الحديث عن مؤشرات رصد التنمية الثقافية والتربوية، فالأرقام تشير إلى التزايد المستمر في عدد المدارس وعدد الجامعات بشكل يكاد يتضاعف كل بضع سنين. لقد نال قطاع التعليم والإنفاق عليه قدرا كبيرا من الاهتمام في ميزانيات الدولة، ومع ذلك وعلى الرغم من ضخامة الأرقام فإن النتائج المرتبطة بالواقعين الثقافي والتربوي تشير إلى عدم مقدرتنا على تحقيق النتائج وفقا للأهداف التعليمية المرسومة. إن الدراسات الميدانية تؤكد اتجاه المستويات التحصيلية لطلابنا نحو التدني والضعف سنة بعد أخرى على الرغم من ارتفاع نسب النجاح التي أصبحت بفضل القطاع الخاص تصل إلى 100 في المائة. أما إذا تحدثنا عن واقع الجامعات السعودية اليوم فإنه واقع يتطلب الدراسة والتأمل، فلا يكاد يمر يوم إلا ونسمع عن العديد من التناقضات التي تشير إلى وجود أزمة حقيقية تمر بها هذه الجامعات. ومما يؤسف له أن هذه التناقضات التي تعيشها جامعاتنا دفعت بالقائمين عليها لاتخاذ قرارات وردود فعل متسرعة في كثير من القضايا المرتبطة بتطوير التعليم العالي في المملكة.
لا شك أن هناك أسبابا كثيرة أسهمت في تحقيق ما نحن فيه من تناقضات، وأنه قد حان الوقت لنتساءل عن كيفية التعامل مع هذا الواقع وكيفية علاجه. إننا اليوم في سباق مع الزمن يتطلب من فئة العلماء والمخلصين مواجهة معضلة تاريخية حقيقية يمر بها مجتمعنا السعودي تتمثل في خطورة الوضعين الاقتصادي والاجتماعي اللذين نعيشهما. إن هذين الوضعين يفرضان على هذه الفئة النظر بجدية لما يُقال أو يكتب، ومحاولة تفنيده وعدم الاستسلام له، بل لا بد من وضع التصورات البديلة التي يمكن أن تسهم في حل جزء من المعوقات التي نعانيها. إن المكان - وإن ضاق - ما زال فيه متسع لكل مجتهد ومخلص لطرح المزيد من الرصد والتحليل.

الأكثر قراءة