الصنم .. صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية
نيل فرجسون, مفكر ومؤرخ بريطاني, يعمل أستاذا في جامعة هارفرد, وهو كبير الزملاء في كل من جامعة أوكسفورد وفي معهد هوفر في جامعة ستانفورد, من كتبه : "الحرب العالمية", "رابطة النقد", و"منزل روتشيلد".
يعلن المؤلف ومنذ الصفحات الأولى, أنه مؤمن بضرورة الإعلان عن "إمبراطورية أمريكية", قائمة بالفعل, رغم إنكار معظم الأمريكيين وجودها, وهذه الضرورة إنما هي وليدة الحاجة إلى "الإمبراطورية الفاضلة" أو الإمبراطورية الليبرالية التي ستحقق الرخاء الاقتصادي والديمقراطية للعالم أجمع, لكنه يطرح ومنذ اللحظة الأولى السؤال المتشكك: هل تمتلك الولايات المتحدة القدرة على أن تكون إمبراطورية ناجحة وقادرة على الاستمرار؟
وفي إشارة إلى أن لغة الأرقام قد تكون خادعة, يعقد الكاتب مقارنة بين الإمبراطورية البريطانية في ذروة مجدها, وبين نظيرتها الأمريكية, ففي حين امتدت السيطرة البريطانية لتشمل 23 في المائة من مساحة اليابسة, لا تتعدى سيطرة الأمريكيين المباشرة 7 في المائة من الأرض, وعلى المستوى السكاني, هيمن البريطانيون على 25 في المائة من الموارد البشرية الأرضية مقابل 7 في المائة فقط للأمريكيين!!
لكن هذه هي أرقام الإحصاءات الكلاسيكية, وفي رأي المؤلف، فإن أرقاما أخرى هي التي ترسم ملامح الهيمنة الأمريكية على عالم اليوم, فالولايات المتحدة تسيطر على عدد كبير من المناطق التي تحكمها دول مستقلة السيادة, وهي تملك 752 منشأة عسكرية في 130 بلدا, ويتمركز جنود أمريكيون في 65 من هذه الدول, ورغم خطابات الرئيس الأمريكي بوش بأن الولايات المتحدة لا تترك وراءها جنود احتلال في المناطق المفتوحة بعد انتصارها على العدو, فهناك 70 ألف جندي أمريكي في اليابان منذ عام 1945, و36.500 جندي في كوريا الجنوبية منذ عام 1950, إضافة إلى القواعد والجيوش الأمريكية في أوروبا الشرقية والعراق وأفغانستان, ويبلغ حجم الإنفاق العسكري للولايات المتحدة 45 في المائة من الإنفاق العسكري لكل دول العالم (189 دولة), في حين أن البريطانيين كانوا يملكون تفوقا نسبيا قابلا للتراجع مقارنة بالإمبراطوريات المنافسة، ولم تستطع إمبراطوريتهم أبدا تحقيق هذا التفوق الساحق على الخصوم والمنافسين.
ويعلن فرجسون أنه وعلى العكس من غالبية الكتاب الأوروبيين, يؤيد إقامة إمبراطورية عالمية ترأسها الولايات المتحدة, ويرى أنها ضرورة ملحة للقرن الحادي والعشرين أكثر من أية حقبة سابقة, وهذه الإمبراطورية ستكون مختلفة في الجوهر عن الإمبراطوريات التي سبقتها, من حيث كونها "إمبراطورية ليبرالية", تحقق أمنها الذاتي ورخاءها الاقتصادي عبر النهوض بباقي دول العالم, وبشكل خاص دول العالم الثالث, التي ستحصل في ظلها على الحرية والرخاء والأمن والحكم المؤسساتي.
ويستشهد المؤلف لتعزيز رأيه, بفشل تجارب الاستقلال السياسي في إفريقيا وبعض الدول العربية من الناحيتين الاقتصادية والمؤسساتية, فالفقر الذي يدمر دول العالم الثالث ويقتل أطفالها ليس نتيجة للتركة الاستعمارية، بل هو عاقبة سوء والحكم الفاسد في الأنظمة الوطنية التي تلت خروج المستعمر. والحل الوحيد هنا هو تعميم النموذج الإمبراطوري الليبرالي الأمريكي, الذي سيضمن أفضل الاحتمالات للنمو الاقتصادي وإعادة التشكيل السياسي والمؤسساتي لبلدان العالم الثالث.
لكن الأمريكيين يفتقرون في الواقع إلى البنية الثقافية والنفسية التي تضمن نجاح إمبراطورية تحكم العالم, وهم مسكونون بالهاجس الأخلاقي أو إذا صحت العبارة, بالاختباء وراء ورقة تين أخلاقية لا تقدم ولا تؤخر في إخفاء الأهداف الحقيقية للوجود العسكري الأمريكي في الخارج, فما إن تدخل جيوشهم بلدا حتى يسارع السياسيون للتأكيد أنها ستنسحب في أقرب وقت ممكن، وأن الوجود العسكري الأمريكي هو بالضرورة مؤقت إلى حين استتباب الأمن والاستقرار في البلاد, وهذا الخطاب الأخلاقي ولو في الظاهر يسبب إرباكا لصانعي القرار السياسي، ويسهم في تقوية عقدة الذنب لدى المواطن والجندي العادي, ويصعب مهمة الجيوش الإمبراطورية في الخارج, وعلى الأمريكيين الاستفادة من الهدوء وبرودة الدم البريطانية فيما يتعلق بفن الكذب على الشعوب المحتلة, ألم تعط بريطانيا المصريين 66 وعدا بالانسحاب دون أن يكون لها أية نية لتنفيذه؟ وما الداعي لتبرير النفس أمام شعوب ضعيفة لا تستطيع حكم نفسها بنفسها ؟ وعلى ذلك فليس الكذب والمراوغة فيما يتعلق بحرية البلدان المفتوحة عبئا أخلاقيا محرجا، بل هو تكتيك سياسي مشروع يخدم مصالح هذه البلدان مثلما يخدم المصلحة الإمبراطورية.
ويبدي المؤلف قلقه من غياب الإرث الاستعماري للأمريكيين وإلى افتقارهم الشديد إلى الإلمام الكافي والضروري بثقافات الشعوب المحتلة, فلا يوجد في التاريخ الأمريكي أحد من أمثال لورنس, أوغيرترود بل وغيرهم ممن كرسوا حياتهم لدراسة ثقافات الشعوب المفتوحة, ولا لجيل الشبان المستعدين لقضاء نصف عمرهم في أراضي المستعمرات البعيدة, وعموما لم يهتم الأمريكيون ببناء القاعدة المعلوماتية الأساسية التي تحتاج إليها الإمبراطورية المعاصرة في حكم وإدارة البلدان الأخرى ذات الثقافات المختلفة, وجل ما يفكر فيه أبناؤهم هو العودة في أقرب وقت ممكن إلى البيت بعد انتهاء مدة خدمتهم في الخارج، وهذا أمر ينطبق على القادة مثلما ينطبق على الجنود العاديين على حد سواء. والخلاصة, إذا أراد الأمريكيون تعزيز إمبراطوريتهم وضمان استمرارها فعليهم الاستفادة من دروس البريطانيين, أما إذا استمر الوضع كما هو عليه الآن، فالمخاطر ستكون كبيرة, فالقوة العالمية للولايات المتحدة اليوم تدار من قبل أشخاص يفتقرون إلى الذهنية الإمبراطورية, في بلد يفضل أبناؤه الاستهلاك على الفتوحات, وبناء الأسواق التجارية على بناء الدول والأمم, ويتوقون لبلوغ أرذل العمر ويخافون الموت في ساحات القتال, لذلك فمن الممكن أن تنحل إمبراطوريتهم وتتفكك بالسرعة نفسها التي انهارت فيها الإمبراطورية السوفياتية.