نهاية النظرية .. الأزمات المالية وفشل علم الاقتصاد «2»
في الجزء الأول حدد الكتاب طبيعة التحدي الذي يواجه علم الاقتصاد عامة وخاصة النظام المالي أثناء الأزمات من خلال الظواهر الأربع التي تكتنف تصرفات البشر، في الجزء الثاني غاص الكتاب في تتبع تفاصيل وتطور التصرفات البشرية مقرونة بما يطالب به علم الاقتصاد.
يقوم علم الاقتصاد على التوصل إلى نماذج تشرح وتوظف لفهم الماضي والتنبؤ بالمستقبل. ولكن هذه النماذج مبنية على مسلمات تختصر تصرف البشر في معادلات رياضية التي بطبيعتها تحاول إقصاء كثير من التصرفات البشرية المزعجة وتعتمد على محاور لا تعترف بالتاريخ أو الزمان أو المكان أو السياق، ولكن القرار البشري يعتمد على استخلاص التجربة التاريخية دون تحديد المحاور الرياضية وبتركيز على السياق الذي يتغير دائما وخاصة أثناء الأزمات. نشوء وتطور تصرف البشر يجعلهم في نزاع مع جوهر علم الاقتصاد الرياضي: تعظيم المصلحة تجريديا. تحليل تصرفات البشر يعري النماذج المنطقية.
كانت مفاجأة أن يتحدث الكتاب عن أحداث الزحام في الحج التي ينسبها علميا للتفريق بين تصرف الفرد وموجة تصرفات المجموعات. يتصرف الفرد عقلانيا، حيث إنه في الغالب يتكيف مع محيطه القريب ولكن سرعان ما يتغير هذا المحيط (السياق) يتغير التصرف بسرعة دون معرفة ما يدور عنه ببضعة أمتار. الزحام ليس إشكالية سيكلوجية الجماعة ولكن إشكالية فيزيائية من حيث تعظيم الموجة التي من خصائص الأنظمة الديناميكية كمن يرمي حجرا في ماء، تصبح الموجات البشرية محتومة لأقل سبب حيث إن المنظومة أكثر تعقيدا من تصرف شخص أو عدة أشخاص لديهم ظرف معين. ما يقوم به الفرد مختلف التأثير في المنظومة. هذه الظاهرة تجعل تقنين التصرف الجمعي من خلال نموذج يعتمد على التشابه في التمثيل والشمولية أثناء الأزمات شبه مستحيل. كان كينز واعيا لهذه الظاهرة إذ يقول إن النموذج يتغير بمجرد تصرفاتنا وقد يتصرف الفرد بحكمة ولكن المنظومة تصوره وكأنه تصرف بغير حكمة، التصرف وليد السياق.
هدف النماذج الاقتصادية في الآخر التنبؤ بالمستقبل. النماذج مبنية على التوزيع الطبيعي إحصائيا ولكن تصرفات البشر لا تخضع للتوزيع الطبيعي خصوصا أثناء الأزمات. تعظيم الأرباح أو المنفعة يتطلب تأطيرا من خلال التوزيع الطبيعي، ولكن أثناء الأزمات تنتقل مجمل التصرفات إلى الهوامش في جدول التوزيع، حيث الاحتمالات الأقل. فمثلا أثناء الأزمات المالية تصبح السيولة أهم محور استثماري من القيم النسبية وربطها بوحدات مخاطر كما ترشدنا النماذج من خلال التوزيع الطبيعي، فالكل يريد الجودة والسيولة على حساب أي بعد آخر. حاول سورس توظيف التفاعل البشري مع الأحداث والسياق من خلال نظريته التي وظفها لتحقيق مكاسب ضخمة خاصة في تجارة العملات ولكنها مع هذا لم تلاق قبولا في الوسط الاقتصادي، يقول الكاتب لعل السبب يعود لعدم قبول إنسان ثري كمنظر اقتصادي. تقوم نظرية سورس على رد الفعل العكسي والتجاوب معه "سنناقشها في الجزء الثالث".
التجاوب والتفاعل مع الآخرين مرده عدم القدرة على التنبؤ بما سيحدث و أيضا لأن المعرفة لابد أن تكون محدودة وحتى لو توافرت المعلومات لن نعرف ما هو مفيد ولذلك سنلجأ لعملية تقدير "السمة الرئيسة في تصرف البشر" لا يمكن أن تكون علمية أو خاضعة للتوزيع الطبيعي. فالإنسان نشأ وتطور من خلال ما يسميه الكاتب بالتجربة العملية من ناحية ولا يمكن إعادة التجربة البشرية لأن السياق تغير من ناحية أخرى. التجربة العملية علمت الإنسان توظيف الأدوات اختياريا حسب قراءته للسياق وتجاوز التفاصيل المطلوبة في التحليل المنطقي. سأستعرض في الجزء الثالث عناصر رؤية الكتاب لما يرى أنه قاعدة جديدة لتفكير مختلف.
التفكير الجديد منصته استبدال النموذج الحالي الذي يسيطر عليه التماثل إلى نموذج يعتمد على وحدات القرار "أفراد وشركات" ودراسة العلاقة الديناميكية بينهم في ظل سياق معين.